حول دور المرجعيات الاسلامية في تعزيز العلاقات الاسلامية – المسيحية
روما، الخميس 21 أكتوبر 2010 (zenit.org). – في قراءة متأنية لنص العهد النبوي لنصارى نجران استوقفني أمران شكليان . الأمر الأول هو ان العهد لم يكن لنصارى نجران حصراً . انما للمسيحيين عموماً . والأمر الثاني هو ان الالتزام الاسلامي بنص العهد لم يكن محدداً بمسلمي الفترة الزمنية التي صدر فيها ، ولكنه نص ملزم لكل المسلمين في كل زمان ومكان وحتى قيام الساعة .
يؤكد الأمر الأول ما ورد في مقدمة العهد حيث يقول “هذا كتاب أمان من الله ورسوله، للذين أوتوا الكتاب من النصارى ، مَن كان منهم على دين نجران ، او على شيء من نِحَل النصرانية ، كتبه لهم محمد بن عبد الله ، رسول الله الى الناس كافة ؛ ذمّةً لهم من الله ورسوله” .
ويؤكد الأمر الثاني قوله ” انه عهد عهِده الى المسلمين من بعده . عليهم ان يَعوه ويعرفوه ويؤمنوا به ويحفظوه لهم ، ليس لأحد من الولاة ، ولا لذي شيعة من السلطان وغيره نقضه ، ولا تعدّيه الى غيره ، ولا حمل مؤونة من المؤمنين ، سوى الشروط المشروطة في هذا الكتاب . فمن حفظه ورعاه ووفى بما فيه ، فهو على العهد المستقيم والوفاء بذمة رسول الله . ومن نكثه وخالفه الى غيره وبدّله فعليه وزره ؛ وقد خان أمان الله ، ونكث عهده وعصاه ، وخالف رسوله ، وهو عند الله من الكاذبين” .
في ضوء العهد النبوي الى المسيحيين عامة ، وفي ضوء الالزام النبوي بنص العهد للمسلمين عامة ، وفي ضوء اعتبار من يخالفه أو ينكثه أو يبدله عاصياً لله ولرسوله ، من المهم التوقف أولاً أمام بنود العهد ، ومن ثم مقارنتها بواقع العلاقات الاسلامية – المسيحية وبدور المرجعيات الدينية الاسلامية في التعامل مع هذا الواقع .
ينص العهد فيما ينص عليه [1] :
أولاً ” أن أحمي جانبهم – أي النصارى – وأذبّ عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح ، حيث كانوا من جبل أو وادٍ أو مغار أو عمران أو سهل أو رمل” .
ثانياً ” أن أحرس دينهم وملّتهم أين كانوا ؛ مِن بَرٍّ أو بحر ، شرقاً وغرباً ، بما أحفظ به نفسي وخاصتي ، وأهل الاسلام من ملّتي” .
ثالثاً “ان أدخلهم في ذمتي وميثاقي وأماني، من كل أذى ومكروه أو مؤونة أو تبعة . وأن أكون من ورائهم ، ذاباً عنهم كل عدو يريدني وإياهم بسوء ، بنفسي وأعواني وأتباعي وأهل ملّتي” .
رابعاً ” أن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي حملها أهل الجهاد من الغارة والخراج ، الا ما طابت به أنفسهم . وليس عليهم إجبار ولا إكراه على شيء من ذلك” .
خامساً “لا تغيير لأسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا سائح عن سياحته ، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم ، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ، ولا منازل المسلمين . فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله وحالَ عن ذمة الله”.
سادساً “أن لا يحمل الرهبان والأساقفة ، ولا من تعبّد منهم، أو لبس الصوف ، أو توحّد في الجبال والمواضع المعتزلة عن الأمصار شيئاً من الجزية أو الخراج ..”
سابعاً “لا يُجبر أحد ممن كان على ملّة النصرانية كرهاً على الاسلام . “ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن”. ويُخْفض لهم جناح الرحمة ويُكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا ، وأين كانوا من البلاد” .
ثامناً “إن أجرم أحدٌ من النصارى أو جُني جنايةً ، فعلى المسلمين نصره والمنع والذبّ عنه والغرم عن جريرته ، والدخول في الصلح بينه وبين من جنى عليه . فإما مُنَّ عليه ، أو يفادي به” .
تاسعاً “لا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملاً ، لأني أعطيتهم عهد الله على ان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين” .
عاشراً “على المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام ، والذبّ عن الحرمة ، واستوجبوا أن يذبّ عنهم كل مكروه ، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم ، وفيما عليهم ..”
حادي عشر “لهم إن احتاجوا في مرمّة –ترميم- بِيَعهم وصوامعهم ، أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم ، الى رفد من المسلمين وتقوية لهم على مرمّتها – ترميمها- ، أن يُرفدوا على ذلك ويعاونوا ، ولا يكون ذلك ديناً عليهم ، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله موهبة لهم ومنّة لله ورسوله عليهم “. [2]
لن أفيض أكثر في الحديث عن هذا الموقف الديني المبدأي الشرعي التأسيسي لعلاقات المسلمين بالمسيحيين . وهو موقف التزم به الخلفاء الراشدون من بعد النبي عليه السلام، ولعل من أشهر المواثيق التي تؤكد هذا الالتزام ، العهدة العمرية لمسيحيي القدس . والمنح التي قدمها الأمويون لمسيحيي دمشق لبناء كنائسهم .
ثم انه اضافة الى هذه الثوابت الدينية الملزمة هناك موقف اسلامي عام ملزم أيضاً يتمثل في حديث للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) . فعندما سُئل : مَن هو المسلم ، أجاب “المسلم من سَلِمَ الناس (أي كل الناس بصرف النظر عن الدين أو اللون أو العنصر أو الثقافة ) من يده ولسانه “. فلا اذية بعملٍ (باليد) ولا اذية بكلمةٍ (باللسان) . واذا كان هذا هو الموقف العام تجاه الناس كافة ، فكيف يجب أن يكون من أولئك الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم “أقرب مودة للذين آمنوا” والذي ربط هذه المودة الإيمانية بأن “منهم قسيسين ورهباناً وانهم لا يستكبرون”؟.
اذا عرضنا لواقع العلاقات الاسلامية – المسيحية اليوم في ضوء ما تتسم به من مظاهر سلبية هنا أو هناك ، لا نستطيع الا أن نتساءل هل ان المرج
عيات الدينية الاسلامية نجحت في نشر هذه المبادئ في الثقافة الدينية العامة ، وهل عملت على تكريسها في السلوك اليومي للمسلمين ؟ يحملنا على طرح هذا السؤال أحداث ووقائع تتوالى فصولاً في دول عربية مثل العراق ، وفي دول غير عربية مثل نيجيريا ، وفي دول اسلامية مثل ماليزيا ، تشير الى ما يتناقض أو الى ما لا ينسجم مع المبادئ والقيم النبوية الملزمة للمسلمين جميعاً . ويعود ذلك اما الى الجهل بهذه الالتزامات ، أو الى تجاهلها . وتالياً الى تغييبها عن الثقافة العامة في بعض المجتمعات الاسلامية . ولو انها كانت حاضرة ومؤثرة وفاعلة كما يجب ، لما امتدت يد لاغتيال كاهن هنا أو راهب هناك. ولما فجرت كنيسة هنا أو بيت مسيحي هناك .
ولأن الطبيعة لا تعرف الفراغ ، فان تغييب هذه الثقافة يشرّع الأبواب أمام ثقافة اخرى معاكسة ، يمليها الجهل بالثوابت الإيمانية ويملي مبادئها التطرف والغلو بما هو كراهية الآخر ومحاولة لإلغائه .
عندما يتعرض الاسلام الى الافتراء والى محاولات التشويه والتضليل ، غالباً ما تبادر مرجعيات مسيحية كبرى الى التصدي لهذه المحاولات والى تسفيهها ..
من الموقف من منع الحجاب في فرنسا ، الى الموقف من الفيلم المسيء لرسول الله عليه السلام في هولندة ، الى الرسوم الكاريكاتورية في الدانمرك ، الى منع بناء المآذن في سويسرا .. انتهاء بالدعوة الى حرق القرآن الكريم في كنيسة مجهولة في بلدة صغيرة من ولاية فلوريدا الاميركية . فقد ارتفعت أصوات مرجعيات مسيحية تندد وتستنكر من الفاتيكان ، الى مجلس الكنائس العالمي ، الى مجلس الكنائس الوطني الاميركي ، الى اتحاد الكنائس الانجيلية ، الى مجلس كنائس الشرق الأوسط . وشاركت في رفع هذه الأصوات مرجعيات دينية يهودية في الولايات المتحدة وأوروبة .
حتى عندما ارتكبت جريمة 11 سبتمبر 2001 رأينا كيف بادر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الى استضافة مؤتمر اسلامي – مسيحي في الفاتيكان من أجل أن يعلن الموقف المبدأي وهو “ان الاجرام لا دين له”.
لا شك في ان هذه المواقف المسيحية الأخلاقية السامية تتعزز وتستقوي بمواقف لمرجعيات اسلامية من قضايا تتعلق بانتهاك حقوق مسيحيين هنا أو بالافتراء على المسيحية هناك . علماً بأن مثل هذه المواقف ليست مفترضة على قاعدة المعاملة بالمثل ، انما هي مفروضة على قاعدة الالتزام بالاسلام شرعة ومنهاجاً .
من هنا نعود الى بيت القصيد ، وهو أهمية دور المرجعيات الدينية الاسلامية في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر فيها العلاقات الاسلامية المسيحية في العالم العربي وفي العالم، في التعريف بالثوابت الإيمانية النبيلة التي قامت عليها هذه العلاقات منذ العهد النبوي والتي يجب أن تقوم عليها اليوم وغداً وحتى نهاية الزمن .. ولنا كمسلمين في رسول الله اسوة حسنة
وأخيراً ، أودّ أن أختم هذه الكلمة القصيرة بالآية القرآنية الكريمة [3]التي تقول :
” من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل هم يسجدون -يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصحالين ” .