حاوره روبير شعيب
الفاتيكان، الجمعة 22 أكتوبر 2010 (ZENIT.org). – خروج المسيحيين من الشرق هو أزمة ولكنه يستطيع أن يضحي حدثًا مؤاتيًا، بشرط أن يعرف المسيحيون أن يحافظوا على نار الإيمان متقدة في قلوبهم. هذا وإن حضور المسيحيين في المشرق هو مسؤولية نحو التاريخ ونحو جذور إيماننا، وخسران تلك البقعة الجغرافية المقدسة لهو خسارة للكنيسة الجامعة.
في هذا القسم الثاني من المقابلة، يتحدث الأب سمير خليل اليسوعي، منطلقًا من معرفته الواسعة للشرق الأوسط، عن أهمية الحضور المسيحي ليس فقط بالنسبة للمسيحية بل أيضًا بالنسبة لإخوتهم المسلمين.
من الممكن قراءة القسم الأول من المقابلة على هذا الرابط “وحدها الدولة المدنية تستطيع أن تنقذ مسيحيي الشرق“
* * *
إن اقتراح “العلمانية الإيجابية” الذي لاقى بعض الحظ والقبول في الغرب، هو غير مقبول في المحيط الإسلامي لأن العلمانية تلمح إلى اختيار العالم على حساب تهميش الله. هل تظنون أن المفهوم الآخر الذي طُرح في السينودس، أي مفهوم “الدولة المدنية”، سيكون له حظ أوفر، أو هل سيختار الشرق، وقد خيبه فشل الغرب الأخلاقي والديني عرضَ الحركات السياسية الإسلامية التي تصرح بأن “الإسلام هو الحل”؟
سمير خليل: إن الغرب قد ذهب بعيدًا جدًا في مواقفه وخبراته وقد أذاب هويته بالذات. فلنذكر محاضرة البابا في جامعة ريغنزبورغ في عام 2006، والتي كانت – لا انتقادًا للإسلام، كما حاول البعض استخدامها لخلق الفتنة – بل انتقادًا للثقافة الغربية التي ذهبت أبعد من عصر الأنوار وصولاً إلى الانصهار في المادية.
إن سؤالك يشير إلى منبع قوة المتطرفين في الإسلام، فلسان حالهم يقول: “الغرب يقدم مشروع حضارة فاسد مبني على الشواذ والانفلات الجنسي، على الزنى، على انحلال العائلة، على الإجهاض… إنه مشروع لا يقبله الحس الإسلامي لأنه فاسد وبعيد عن الله. الحداثة التي يبشر بها الغرب هي مرادف للإلحاد وانعدام الأخلاق. ولهذا فالمسيحية، التي هي بالنسبة لهم مرادف للغرب، قد فشلت. بالشكل عينه فشلت الماركسية والاشتراكية. الحل بالنسبة لهم هو الإسلام، والبرهان على ذلك هو أنه عندما عاش المسلمون الإسلام بحذافيره في الماضي تمكنوا من اجتياح المتوسط”.
هذا هو التفكير الذي عرضه أيضًا معمّر القذافي في زيارته إلى إيطاليا مؤخرًا حيث قال: “في عام 2050 أوروبا ستضحي ذات أكثرية مسلمة. إن توقعه سيضحي واقعًا إذا لم يغيّر المسيحيون موقفهم.
يضيق المقيمون في الشرق ذرعًا بتسمية وجودهم فيه “رسالة”. فغالبًا ما يُسبغ عليهم المسيحيون الآخرون من بعيد هذا اللقب دون أن يلمسوا بأصبعهم صعوبة واقع عيشهم. يخبرنا كتاب أعمال الرسل في الفصل الثامن أن المسيحيين فروا من أورشليم (باستثناء الرسل) وفرارهم كان فرصة لتبشير مدن أخرى. ألا يمكن أن يكون هذا مصير مسيحيي الشرق المعاصر؟
سمير خليل: الكثير من الأشخاص في الشرق الأوسط يقولون لي: “البقاء هنا يضحي أصعب يومًا بعد يوم. إذا تسنى لنا نحن أن نستمر في العيش، لا نعتقد أن ذلك سيكون ممكنًا لأبنائنا”. على هذا القول أجيب في ثلاث نقاط:
في المقام الأول، لا يحق لأحد أن يرغم أحد آخر على البقاء. فكل عائلة لها حقها بتقرير مصيرها ومستقبلها. لا يحق لنا ككهنة أن نعلم الآخرين ماذا يجب عليهم أن يفعلوا.
ولكني أضيف نقطة أخرى: إن كان أفضل لك على صعيد شخصي أن تهجر، فليس الأمر كذلك على صعيد كنسي وعام: فلو فعل الجميع مثلك، لفرغ الشرق عاجلاً من مسيحييه؛ فلا يعود هناك تلاميذ للمسيح في الأرض عينها التي وُلد فيها يسوع. ولذلك يترتب علينا دعوة ومهمة خاصة.
النقطة الثالثة أتساءل فيها: إذا كنا جميعنا في الغربة، هل سنحافظ على هويتنا الشرقية؟ من الصعب الحفاظ على التقليد الشرقي في الغرب أكثر من جيلين أو ثلاثة على الأكثر. وهذا بالطبع ليس مشكلة شخصية، هو مشكلة على صعيد الكنيسة الجامعة. فإذا زال تقليد كنسي شرقي، الكنيسة الجامعة هي الخاسرة. كان البابا يوحنا بولس الثاني يقول: للكنيسة رئتين، واحدة شرقية وأخرى غربية. إذا زالت إحدى هاتين الرئتين سيضيق النفس الكنسي.
وعليه أقول إلى المسيحيين: إذا هاجرتم أو بقيتم، فليست هذه المسألة الأهم. المهم هو أن تحافظوا على إيمانكم. اعرضوا إيمانكم على أولادكم؛ وإذا رأيتم مسيحيين قد فقدوا الإيمان فساعدوهم على إيجاده.
هذا وإن ما تقوله في سؤالك منطلقًا من أعمال الرسل هو صحيح، فرسالة المسيحيين انطلقت من واقع صعب وطارئ، وقد أضحى هذا الواقع فرصة سانحة لنشر المسيحية خارج اليهودية. ولكن هذا الأمر قد تم بوجود شرط أساسي: كانوا متقدين بالإيمان. أما نحن، فإذا كانت قلوبنا متقدة بشغف المال والرفاهية، فهجرتنا لن تحمل أي ثمر. الأمر الجوهري هو أن نحافظ على وديعة الإيمان، وعلى حبنا للإنجيل. فإن بقيت في لبنان، أو سوريا أو مصر، سيكون هناك مسلم بحاجة للإنجيل. وإن هاجرت نحو أمريكا أو دول أخرى، فسيكون هناك غربي بحاجة للإنجيل.
هل يكفي أن نقدم نصائح وتوجيهات رعوية وروحية لمسيحيي الشرق لكي لا يهجروه؟ ألا تعتقدون أنهم بالحري بحاجة إلى دعم اقتصادي وسياسي؟
سمير خليل: أعتقد أن المشكلة في الشرق الأوسط ليست اقتصادية. فلنأخذ مثل لبنان. في معظم أحياء لبنان هناك أثرياء، وهناك أيضًا العديد من الأعمال الخيرية على الأرض اللبنانية. المساعدات التي تأ
تي لطوائف أخرى في لبنان مثل الشيعة السنة تأتي من دول دينية. ولكن الكنيسة ليست دولة، وهي لا تستطيع أن تقوم بالعمل الدعائي نفسه. نعرف بالتأكيد أن المهاجرين يستطيعون أن يساعدوا، وهم يفعلون ذلك مساهمين في إعالة أهلهم. من الممكن تحسين هذا الوضع، ولكنه لا يكفي لحل مشكلة الهجرة في الشرق. مشكلة الشرق هي مشكلة تنظيم وتصميم، بحيث لا يتم هدر الأموال أو سرقتها من قبل من يستعطي على حساب الشرقيين. للأسف، الإكليروس عندنا لا يقدم شهادة صالحة دومًا، ولذا لا يحوز على الثقة المناسبة لكي يكون وسيلة أمينة لنقل المساعدات وقيادة مشاريع التنمية. ولهذا تتردد علينا كلمات الإنجيل الداعية إلى الارتداد والتوبة وتغيير أسلوب العيش.
ما هو تعليقكم على الغياب شبه الكامل للتغطية لعمل السينودس من قبل الصحف الإيطالية والعربية. علمًا بأن حضور الصحفيين الناطقين بالعربية لا يزيدون على عشرة؟ وهل يعود هذا الغياب إلى حكم مسبق نحو الأساقفة بأنهم لن يتوصلوا إلى حل، أو إلى خيبة مسبقة من تصرفات الكنيسة، أو من عدم اهتمام الغرب بالشرق الأوسط بشكل عام وبمسيحية بشكل خاص؟
سمير خليل: أتساءل إذا لم يكن هذا النقص عائدًا ببساطة لعدم تواجد صحفيين عرب في روما. ولكن ربما قد تساءلت الصحف: ماذا يستطيع الأساقفة فعله لحل الوضع في العراق، فلسطين أو لبنان؟ وجوابهم كان: لا شيء. ولذا أهملوا السينودس. علمًا بأن الكاثوليك هم أقليات في معظم دول الشرق الأوسط. ولذا وحده لبنان يستطيع أن يفعل شيئًا.
أما في ما يتعلق بالصحف الغربية فأعتقد أن ما يقود خياراتها هو الربح والاستهلاك. فبما أن أنباء السينودس لا تبيع كما يريد المحررون، فهم لا يتابعونها ويفضلون تكريس صفحاتهم للأخبار التافهة، للشكوك وللفضائح الجنسية.
أحيانًا، أعتقد أن عدم تغطية أخبارنا يعود إلى سوء إعلامنا. أحمد الله أن القطاع الإعلامي في لبنان ناجح، فبفضل مؤسسات مثل زينيت، تيلي لوميار والمؤسسة اللبنانية للإرسال يستطيع الكثير من المؤمنين الشرقيين أن يتعرفوا بعمق على أخبار وخبرات الكنيسة.
ختامًا، ما هي بنظركم المواقف التي يجب أن نأخذها إكليروسًا ومؤمنين لكي يأتي السينودس بثمار جمة؟
سمير خليل: أعتقد أن الموقف الأساسي الذي يجب أن يلتزمه الآباء المشاركون في السينودس هو الصدق والحس النقدي لكي يحددوا بوضوح ما هو صالح وما هو طالح في الشرق، وما يجب تحسينه.
أما بالنسبة للموقف الذي يجب على المسيحيين تبنيه، فأنا أعتقد أنه يجب عليهم أن ينظروا نظرة إيجابية إلى السينودس. فبالعمق، السينودس هو كم هائل من العمل الإيجابي: آلاف الساعات من العمل والتعب لعدد كبير من الأشخاص. ولذا الموقف الملائم هو الجدية: فنحن أمام مستقبلنا، لا مستقبل الأساقفة، بل مستقبل كل مسيحيي الشرق، ومستقبل كل الشرقيين.
في مداخلته، تحدث السيد محمد السماك عن الدور الذي لعبه المسيحيون في صوغ هوية الشرق الأوسط، وصرح أنه من دونهم لما كان الشرق ما هو عليه. لقد لعب المسيحيون دورًا كبيرًا في الماضي البعيد والقريب، وأغنوا الهوية العربية حضاريًا، ثقافيًا، سياسيًا وروحيًا. لكي لا يضحي هذا الدور مجرد ذكرى غابرة بل لكي يبقى واقعًا حيًا، لا بد للمسيحيين أن ينفتحوا على “الشركة” في ما بينهم ومع مواطنيهم المسلمين. وعليهم أن يعيشوا “الشهادة” التي ليست مرادفًا للاقتناص الرخيص. الشهادة هي أن يعيشوا ويحملوا إلى الآخرين جوهر الإنجيل، الذي هو خبر سار، بشرى سارة للجميع، وعلى المسيحيين أن يحملوها بتواضع.