الفاتيكان، الاثنين 16 يناير 2012 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي كلمة غبطة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في افتتاح أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس والمسيحيين في سن الفيل في كنيسة الأقباط.
* * *
1. يسعدنا ان نفتتح معاً اليوم، في هذه الكنيسة المباركة بضيافة رعية الأقباط الأرثوذكس في لبنان، أسبوع التأمل والصلاة من أجل وحدة الكنائس والمسيحيين، مردّدين صلاة الربّ يسوع: “ليكونوا واحداً، أيها الآب، كما نحن واحد” (يو17: 22). وموضوع هذا الأسبوع لسنة 2012 كلمة بولس الرسول: “كلّنا سنتغيّر بغلبة ربنا يسوع المسيح” (1كور15: 51 و 57). فمن أجل البلوغ الى وحدة كاملة وظاهرة في كنيسة المسيح، ينبغي علينا وعلى الجميع أن نتغيّر بقوّة نعمة يسوع المسيح، ونتحوّل ونصبح مماثلين للمسيح. إنّها دعوتنا الى التغيير والتجدد في الأشخاص والأشكال والمؤسسات بحكم المعمودية والقربان. وأودّ أن أعرب باسمكم عن الشكر والتقدير لأعضاء اللجنة الأسقفية للعلاقات المسكونية وبخاصة لرئيسها سيادة اخينا المطران سمعان عطالله السامي الإحترام، لما تقوم به من مبادرات، ولاسيّما لدورها في الإعداد لهذا الأسبوع وإحياء نشاطاته.
2. وإذ نلتقي في هذه الكنيسة القبطية، فإنّ قلوبنا تتّجه إلى مصر حيث يعيش العدد الأكبر من مسيحيّي هذا الشرق، أبناء الكنيسة القبطيّة، لنعبّر لهم، وعلى رأسهم، لقداسة البابا الأنبا شنودة الثالث، بطريرك الكرازة المرقسيّة، عن تقديرنا الكبير لما تحمل كنيستهم من إرث روحي وشهادة مسيحيّة راسخة رغم التحديات العديدة والصعوبات. فالكنيسة القبطيّة لم تتوانَ منذ بداياتها عن التضحيّة وتقديم الكثيرين على مذبح الشهادة بهدف الأمانة لإنجيل المسيح والتمسّك بإيمان الرسل والآباء الأبرار. وفي هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ مصر وبلدان شمالي افريقيا والشرق الأوسط، نسأل الله أن تكون دماء الأبرياء الذين يسقطون على أراضيهم، بذاراً للسلام وتحقيقاً للأخوّة في كنف أوطان تحترم الإنسان على قاعدة المواطنة الشاملة والمتساوية للجميع. إننا نتضامن معهم في المحنة والصلاة والتطلّع الى مستقبل إصلاح وتفاهم لخيرهم وترقّي مجتمعاتهم وسلام أوطانهم.
3. عظيم رجاؤنا المسيحي المؤسَّس وطيداً على غلبة المسيح الذي جعلنا شركاء فيها وهو القائل: “سيكون لكم في العالم ضيق، ولكن ثقوا إنّي قد غلبت العالم” (يوحنا 16/33). لذلك إنّه لمن صميم إيماننا المسيحي أن نعتقد مع القديس بولس الرسول بأنّ النصر قد ابتلع الموت ونعلن معه بكل اعتزاز: “أين يا موت نصرك؟ وأين يا موت شوكتك؟… فالشكر لله الذي آتانا النصر عن يد ربّنا يسوع المسيح.” (1 قورنتس 15/55-57)
إنّ زرع الحياة الجديدة، الذي نحمله فينا منذ يوم عمادنا المقدّس، يجعلنا شركاء في مسيرة العبور هذه من عالم الموت والخطيئة إلى عالم الحياة الجديدة والملكوت الذي أئتمنا المسيح الربّ عليه. ويسندنا في مسيرة العبور والتغيير سرّ الإفخارستيا حيث ذبيحة الفداء والغفران ووليمة جسد الربّ ودمه للحياة الجديدة. وفيما نصلّي من أجل وحدة الكنائس والمسيحيّين، ندرك أنّ هذه الوحدة لا تتحقق إلّا بمقدار ما نشارك السيّد المسيح في نعمة النصر والحياة الجديدة. والحركة المسكونيّة لا تصنع الوحدة بل تساعدنا على أن نكتشفها ونقترب منها ونستعدّ لاستقبالها كونها عطيّة الله لنا جميعاَ.
4. في أسبوع الصلاة الذي نفتتحه اليوم، سوف نلج مع مسيحيّي العالم أجمع إلى عمق هذا الإختبار الروحيّ، وندرك جوهر هويتنا المسيحية المؤسَّسة على السرّ الفصحي، نبع الحياة الجديدة وأداة مصالحتنا مع الله ومع دعوتنا الأصيلة، ومع بعضنا البعض. لذلك لا تنفصل المسيرة نحو الوحدة عن مسار التوبة والإرتداد الدائم إلى النعمة الإلهيّة التي هي وحدها “تكمّل كلّ نقص فينا” وتجدّدنا باستمرار. فالغلبة التي يتكلّم عنها بولس الرسول مرتبطة بحالة التغيير باستمرار، والسير معاً إلى المسيح صانع الغلبة والتغيير، والإلتقاء فيه. فلا بدّ من أن نشكر الله على زمن النعمة هذا الذي يشكّله أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس والمسيحيّين، وهو فرصة سنويّة مميّزة للتعبير عن أخوّتنا الكيانيّة، وللعودة بتواضع إلى ذواتنا وفحص ضميرنا عمّا أسأنا به إلى وحدة جسد المسيح غير المنقسم بجوهره، فنلتمس منه الغلبة على الإنقسام بالوحدة، وعلى الخلاف بالمصالحة، في الكنيسة والعائلة والمجتمع.
5. إنّ الوحدة التي ننشد لا تعني انصهاراً يلغي كل الخصوصيّات وفرادة كل كنيسة في إرثها الروحي العريق. فميزتنا في هذا الشرق تكمن في حملنا هذا التنوّع الروحيّ والكنسيّ كجزء من هويّتنا المسيحيّة الأصيلة. نحن نؤمن أن هذا التنوّع هو نتيجة عمل الروح القدس، وندرك أنّ ليتورجياتنا المتعدّدة وخبراتنا الكنسيّة والثقافيّة والروحيّة المتنوّعة تتكامل في جسد المسيح الواحد، والمتنوّع الأعضاء والمواهب والجماعات. فلا مجال للإنطواء على الخصوصيّة وعلى الذات. فإنّه على رغم انقساماتنا وعدم كمال شركتنا الكنسيّة التامّة، ندرك أنّه من صميم دعوتنا ومسؤوليّتنا أن نعيش القدر الممكن من الشركة والمحبة وأن نكون في هذا الوطن وفي بلدان هذا الشرق صانعي سلام وتقارب وتفاهم، لكي نكون أبناء الله حقاً واخوة وأخوات بالمسيح سلامنا: “طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعَون” (متى5: 9).
6. ويطيب لي في المناسبة أن أحيّي مجلس كنائس الشرق الأوسط، هذه المؤسّسة العريقة التي تجمع مسيحي
ّي المشرق على اختلاف انتماءاتهم فتتمثّل ضمنه العائلات الكنسيّة الأربعة: الكاثوليك والأورثوذكس والأورثوذكس الشرقيّون والإنجيليّون. إنّه يشكّل أداة أساسيّة للتقدّم معاً في مسيرة الشهادة المشتركة وتوطيد أواصر الوحدة فيما بيننا؛ وهو يدعونا من أجل هذه الغاية، لإحراز الغلبة بالمسيح على الإنقسام، وعلى التغيير والتجدد الدائم على مستوى الأشخاص والمؤسسات. إنّ مصيرنا المشترك في هذا الشرق مرتبط بوحدتنا كما كتب بطاركة الشرق الكاثوليك في رسالتهم الراعويّة عن الحضور المسيحي في الشرق (1992): “في الشرق نكون مسيحيّين معاً أو لا نكون” (رقم 39). وإنّي أغتنمها فرصة لأقدّم أخلص التهاني لرؤساء المجلس وهيئته التنفيذيّة بنجاح للجمعيّة العامة الأخيرة التي انعقدت في قبرص وأسّست لمرحلة جديدة من التعاون والتعاضد بين الكنائس الأعضاء. وأتوجّه الى الأمين العام الجديد لهذا المجلس حضرة الأب بولس روحانا بالتهنئة والدعاء الى الله ليوفّقه في رسالته الكنسيّة هذه، مؤكدين له كلّ الدعم والتشجيع.
7. إنّنا إذ نشكر الله الآب على عطاياه وجودته، وعلى أُخوّتنا بابنه يسوع المسيح، نسأله أن ينير قلوبنا بأنوار روحه القدّوس لكي نسير معاً على درب العبور الفصحي الى التجدد والتغيير والشهادة للمسيح، على مثال تلميذَي عمّاوس، فينتعش فينا الرجاء ويتجدّد الإيمان وتتوطّد المحبّة. ومعاً نرفع آيات الحمد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.