“اســــمـه يـــوحــــنــا”
(لو1: 63)
1. تحيي الكنيسة اليوم عيد القدِّيس يوحنّا المعمدان، شفيع منظَّمة فرسان مالطه ذات السيادة، التي يسعدنا أن نحتفل معها بالعيد في هذا الكرسيّ البطريركيّ. إننا نحيي سفيرها في لبنان السيد Charles Henri d’Aragonومن خلاله نحمّله تحياتنا لرئيس المنظّمة الأعلىFestin Prince Fra Matthieu . ونحيِّي رئيس المنظّمة في لبنان السيِّد مروان صحناوي وأعضاءها وأصدقاءها. وإننا نقيم معهم هذه الليتورجيّا الإلهيَّة، كذبيحة شكر لله على تسعماية سنة من حياة المنظّمة على المستوى العالميّ. وقد تأسَّست في 15 شباط 1113، على يد الطوباوي Gerardo Sassoورفقاء له، بإنعام من السعيد الذكر البابا بسكال الثاني، بمرسوم عنوانه: Piae Postulatio Voluntatis، تحت شعار: حماية الإيمان وخدمة الفقراء، “Tuitio fidei et obsequium pauperum”.كما نحتفل بها ذبيحة استغفار عن كلِّ ما صدر من نقص في الالتزام المسيحيّ وفي خدمة المحبَّة. ونريدها أيضًا ذبيحة استلهام لأنوار الروح القدس، مستشفعين القدِّيس يوحنّا المعمدان، من أجل تمييز تحدّيات الرسالة والشهادة في مجتمعنا، والتماس دفع جديد للانطلاق بغيرة متّقدة، وبإيمان لموهبة المنظّمة وروحانيّها وتقاليدها.
ونذكر بنوع خاصّ ضحايا الجيش اللبناني والمواطنين الأبرياء الذين سقطوا أمس واليوم في أحداث صيدا المؤلمة والمدانة والمستنكرة أشدّ الاستنكار. وألمنا اثنان: الألم الأوّل من جراء سقوط الضحايا البريئة، العسكرية والمدنية؛ والألم الثاني من كون الحدث اعتداء سافراً متعمّداً على الجيش، وبالتالي على كلّ لبنان وكرامة شعبه ومؤسساته. وما يزيدنا ألماً وأسفاً أنّ هناك من يحاول إعطاء الجريمة المزدوجة غطاء سياسياً، كالمعتاد.
ونصلّي من أجل السلام العادل والشامل في لبنان وسوريا وسائر بلدان الشرق الأوسط.
2. “اسمه يوحنّا” (لو 1: 63). هكذا سمّاه الملاك في البشارة لزكريا. اسمه يعني “الله رحوم – يهو حنّان“، لكي يكشف للعالم رحمة الله اللامتناهية، ويعلن تجلّيها في شخص يسوع المسيح، ابن الله المتجسِّد. فكان يوحنّا اسماً مثل الفجر الذي يعلن طلوع الشمس، شمس رحمة الله المتجسِّدة. وهكذا أخذت الرحمة، وهي صفة الله المطلقة، اسماً في التاريخ هو يسوع المسيح. وقد أعلن مجيئه يوحنّا السابق. إنَّ الرحمة الآتية من الله، هي حاجة عالم اليوم، بل حاجة مجتمعنا اللبنانيّ، وحاجة بلدان الشّرق الأوسط. ألسنا كلُّنا نعاني من التحجُّر في القلوب، ومن الظلم والاستبداد والقهر، من العنف والقتل والتهجير، ومن الإٍساءات والنزاعات والتخوين؟
3. لا يمكن أن تعيش أيُّ جماعة بشريَّة كبيرة كانت أم صغيرة، من دون رحمة. فالرحمة هي تجسيد المحبَّة في الأفعال، وهي، كما يصفها بولس الرسول في الرسالة إلى أهل كورنتس: “التأنِّي والحنان والرأفة والاحتمال والصبر، والفرح بالحقّ، ورفض الظلم، والإخلاص والصدق” (راجع 1 كو 13: 4-7). والرحمة اعتناء بالفقير والجريح، بالمظلوم والمقهور، بالجائع والشريد، بالمريض والأسير. وهي وسيلة لقيام روابط أخوَّة بين الناس، مثل ذاك السامريّ الذي اعتنى بالرجل المُعتدى عليه من اللّصوص (راجع لو 10: 34-37) وهي الشرط الاساسي لنيل رحمة الله: “طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون” (متى5: 7).
4. إن منظَّمة فرسان مالطة ذات السيادة وُجدت كالتزام مسيحي في الشّهادة للإيمان بالمسيح ولمحبته، بعيش المحبة والرحمة تجاه الفقراء والمرضى والمُعوَّقين واليتامى والمُسنّين وكلّ الذين حُرموا من انعامات الحياة، وقست عليهم يد الدهر. فأسّست عندنا سفارة ومستوصفات ومراكز طبية وصحية. واعتبرت أنّ حقل خدمتها في لبنان يتّسع إلى خدمة كرامة الإنسان، أيّاً يكن دينه أو انتماؤه أو رأيه، ليصبح أيضاً التزاماً في تعزيز العيش معاً، ونشر ثقافة السلام، وتقاسم القيم الروحية والانسانية والاجتماعية، بفرح وحماس. والكلّ ينبع من التزام أساسي وأصلي هو الحياة الروحية العميقة لدى كلّ عضو من أعضاء المنظّمة، والتكرّس بنذور لخدمة الفقراء والمرضى، كشهادة حيّة للمحبة الإنجيلية.
5. في الرسالة التي وجّهها قداسة البابا فرنسيس إلى رئيس الحكومة البريطانية السيد دافيد Cameron في 15 حزيران الجاري بمناسبة انعقاد مجموعة 8G في مدينة Lough Erne من 17 إلى 18 الجاري، أكّد قداسته أنّ “الغاية الأولية للسياسة والاقتصاد هي خدمة الإنسان”. ولذا،ينبغي وضع الإنسان، وكلّ رجل وامرأة، في قلب كلّ نشاط سياسي واقتصادي، على الصعيدَين الوطني والدولي”. وعاد وأكّد أنّ “الشخص البشري هو الغاية، أما الوسائل فهي السياسة والاقتصاد” (راجع جريدة الأوسيرفاتوري رومانو اليوميّة، تاريخ 17-18 حزيران 2013).
6. في ضوء هذا التعليم الصحيح والصريح، لا يمكن أن نقبل بعد اليوم في لبنان، بأن يكون العمل السياسي موجّهاً ضدّ المواطن وكلّ إنسان عائش على أرضه، إذ يهمله ويفقره ويذلّه ولا يوفّر له فرص العمل، بل يُرغمه على الهجرة، وعلى كسب المال والقوت بأيّ وسيلة كانت، بما فيه السرقة والابتزاز والرشوة والفساد، وغيرها من الوسائل اللاأخلاقيّة.
لا يمكن أن نقبل بعد اليوم في لبن
ان بالاستمرار في النزاعات والخلافات بين أهل السياسة، ولاسيّما بين الفريقَين المعروفَين، على حساب المؤسّسات الدستورية والإدارية والقضائية والأمنية، الكفيلة بإنعاش الحياة الاقتصادية والتجارية والسياحية، بالتّعاون مع القطاع الخاص، والكفيلة ايضاً بتوفير الاستقرار والسلام والأمن الغذائي. ولا يمكن أن نقبل بعد اليوم في لبنان بسلاح غير شرعي أي بسلاح غير سلاح الجيش والقوّات المسلّحة الشرعية. إنّ كلّ اعتداء بالسلاح غير الشرعي على الجيش أو على المواطنين اللبنانيين اعتداء على لبنان وشعبه وكرامته، وجريمة نكراء يتساوى فيها المرتكب والمحرّض والسياسي والمغطّي. فبات علينا أن نعمل مع مؤسساتنا الكنسية ومع ذوي الإرادات الطيبة على حماية شعبنا وتأمين كرامته وعيشه الكريم. وقد تبيّن بكلّ أسفٍ أن هذا الأمر لا يعني المسؤولين عن العمل السياسي عندنا، بل ما يؤسف له أنّهم يعطّلونه ويعطّلون عمل المجالس الاقتصادية بخلافاتهم المتمادية، وبحساباتهم الخاصّة.
7. وأكّد البابا فرنسيس في رسالته المذكورة أن المناقبيّة الأخلاقيّة ليست أمراً خارجيّاً عن السياسة والاقتصاد، بل هي جزء لا يتجزّأ منهما فكريّاً وعمليّاً. فينبغي أن تقود مناقبيّة الحقيقة المتجلية في احترام حقيقة الانسان كلّ عمل السياسي واقتصادي. ويعتبر قداسته الانشغال بتأمين أساليب الراحة المادية والروحية لكلّ إنسان، هو نقطة الانطلاق نحو الحلّ لكلّ أزمة سياسية واقتصادية، وهو المقياس النهائي لفاعليّة السياسة والاقتصاد ومناقبيّتهما. أجل، غاية الاقتصاد والسياسة خدمة الإنسان، بدءاً بمن هم الأكثر فقراً، والأكثر ضعفاً، حيثما وُجدوا، ولو في بطون الأمهات. كم نرغب في أن يصل هذا التعليم إلى ضمائر العاملين في الحقلَين السياسي والاقتصادي!
عندما كرّسنا لبنان لقلب مريم الطاهر منذ أسبوع، صلّينا لكي تشفعَ بنا سيدة لبنان لدى الله، وتستمدّ منه أن يرسل لوطننا مسؤولين سياسيّين حسب قلبه، يكونون أخلاقيّين ومناقبيّين، مخلصين للبنان أوّلاً وآخراً، يتحلّون بالتجرّد والشفافية، ويتميزون بمحبّتهم لخير الإنسان وترقّيه، ويكونون مجلّين بضميرهم الوطني الظاهر في أعمالهم ومواقفهم ومثاليّة حياتهم، والدالّ إلى إيمانهم الكبير بالله، وإلى تعلّقهم بجمال الحقيقة.
هذه المزايا تشكّل الأساس الروحي والأخلاقي لديكم، أيُّها المنتمون إلى منظَّمة فرسان مالطة ذات السيادة. فإنكم تتميّزون باستلهامكم المبادئ والقيم المسيحية التي توجّه التزامكم الاجتماعي في كلّ قطاعاته، أينما تواجدتم في مختلف مناطق العالم. كونوا على ثقة أنّكم تنشرون ثقافة المحبة الاجتماعية والرحمة وتعليم الكنيسة، وتستمدّون حركة التزامكم من الشركة مع الكنيسة، ومن الاتّحاد بها كأمّ ومعلّمة، وترون فيها “المدينة المبنيّة على الجبل والسراج المضيء على المنارة”، اللّذين يتكلّم عنهما الربّ يسوع في الإنجيل (راجع متى5: 14-15).
9. إنّنا نصلّي معكم اليوم من أجل المزيد من الالتزام في شعاركم “حماية الإيمان وخدمة الفقراء”، كواقع وقوّة لمواجهة تحدِّيات الفقر المتزايد والمرض المتنوِّع، ملتمسين شفاعة القدِّيس يوحنا المعمدان الشَّاهد لرحمة الله، والطوباوي Gerardo، وسائر قدّيسي المنظّمة وطوباويّيها. ولتكن السيدة العذراء مريم، أمّ الرحمة وسيدة لبنان، ملهمتكم الدائمة وموجّهتكم لتفعلوا كلّ ما يقوله لكم ابنها الإلهي (يو2: 5)، فتكون حياتكم وحياتنا جميعاً نشيد تسبيح “لله الغنيّ بالرحمة”، الآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.