هذا البَدء ، لكي نستطيعَ أن نعطي من خلاله معانيَ عميقة في معرفتنا بسرّ الله من خلال كشفه من قِبَل ” وجه يسوع” ، هو ما يُمكّننا من المسيرة والإنطلاق الأوّليّ ، والإندفاعَ الأوّليّ ؛ إنّه نقطة إنطلاق ، الشحنة الآولى التي تطلقُ صاروخَ اللقاءَ مع الله ؛ وذلك ، ولكي نكونَ اكثرَ واقعيّين بعيدًا عن الأفكار والنظريّات ، اللقاء لا يحصَل وكأننا رأينا شخصًا أمامَنا بعدَ غياب ٍ طويل ؛ ليس لقاءً جامدًا ، أي ” صورة فوتوغرافيّة ” لوجه ٍ غابَ عنّا ثمّ ظهرَ لنا فجأة ً! اللقاء الذي سيحصل ويضربُ نفوس الرسل ، هو لقاء حميميّ ، ألفة ، وعشرة ، خبرة حيّة واقعيّة من خلال تاريخ حيّ متحرّك . وسيكونُ هنا ، من خلال حدث القيامة تاريخين ولقاءَين : تاريخ يسوع الناصريّ – الذي من خلال سرّ القيامة ” كشفَ الوجهَ الحقيقيّ ” – سيُرجِعَهُم إلى نقطةَ البدء ( الجليل ) ، سيتذكّرون أحداثَ تاريخ وصراعات الناصريّ ، كلامه وأفعاله ومعجزاته ، بالإعتماد على العهد القديم والأنبياء حول سرّ المسيح . وأيضا : تاريخهم الشخصيّ الخاصّ ، سيمتزجُ تاريخ الناصريّ بتاريخهم الشخصيّ ، في جسد ٍ حيّ ديناميكيّ وفعّال .
ونستطيعُ القول : أنّ جسد القائم ، ليس جزيئة صغيرة فقط ، من جزيئات مجهولة ؛ بل إنه جسدٌ قائمٌ ، متجلّ ، متحوّل ، ممجّد ، جامعٌ ، جسدٌ كونيٌّ علائقيّ ، يغمرُ العالم والتاريخ والإنسان والكون . فالتاريخان يذوبان في نقطة القيامة التي هي محرّك كلّ شيء ، التي بدورها ، ستُعطي نورًا ويقينــــًا لهم ، يستطيعوا من خلال قوّة الإشعاع الكبير والرهيبْ ، أن يقرأوا حياة الناصريّ ؛ وفي ذات الوقت ، حياتهم الخاصّة . ستضعُ أمامهم ( نورُ القيامة ) إمكانيّة رهيبة لإنْ يدخلوا في حياة الناصريّ ، ويعيشوا هم ، كما يسوع ، الخبرة الفصحيّة التي هي خبرة لقاء ٍ – مع – الآخر – الذي هو ” الله الآب ” . خبرة حيّة تاريخيّة ، إنها خبرة عبور ، وإنتقال ، وتحوّل ، وخروج ، وقفزٌ للإمكانيّة القصوى لإن نكونَ على مثال الله من خلال الطاعة والتواضع والمحبّة . إنها نورٌ ولقاءٌ دائميٌّ ، متواصل ، لا يتوقّف ؛ يُسائِلُنا دائمًا ويضعنا في موقف الإنتظار والترقّب .
سوفَ لن يكون هذا اللقاءُ مع الــ ” وجه ” ، نورًا ومحبّة فقط ، بل لقاءً مع ” ألحقيقة ” التي ستُكشف لنا تدريجيًا مع الوقت . وهنا ، اللقاءُ هو ( نظرٌ ورؤية ) ، فهو يقدّم لنا رؤية كاملة لكلّ أبعاد الحياة التي نعيشها ، من خلال الخبرة الفصحيّة (خبرة القيامة ) ، التي ستُصبّ وتنغَمِرُ على كامل واقع حياتنا التاريخيّة ، ومنها تضعنا في داخل تدبير الله العظيم .
من دون هذه الرؤية ، نكونُ مثل مَنْ يضعُ سويّا جزيئات منعزلة لشكلّ كليّ مجهول (نور الإيمان – البابا فرنسيس ). نورُ القيامة هو ، ذاك النور الذي يرتبطُ بالوجه ! وجهٌ نرى فيه الآب . لا يمكن أن يسبقَ الرسلَ المسيح القائم ؛ فالمسيحُ هو السبّاق دائمًا ، لإنّ الإيمان هو نورُ القيامة ذاتها ، فالأخير هو موضوع الإيمان (أي قيامة المسيح ) . ولهذا ، فالإيمان يحتضنُ كلّ حقيقة وإنْ كانت الحقيقة العلميّة – التقنيّة ، التي تريد أن تضعَ كلّ شيء تحت خانة الملموس والظاهر . فالحقيقة ، كما تقول الرسالة ” نور الإيمان ” تنحصِرُ غالبًا فيما يعتبرهُ الفرد حقيقة أصيلة وذاتيّة صالحة فقط للحياة الفرديّة . إن كانتْ حقيقة ، فلا يمكنُ أن نفصلها عن المحبّة . فالمحبّة هي أساسُ كلّ حقّ ، ومعنى ، وهدف ، وغاية ؛ لإن الله محبّة .
إذن ، الحقيقة التي يحتضنها الإيمان ، في الأناجيل الأربعة ، هي ظهور الآب في الإبن ، في جسده ، وفي أعماله الأرضيّة . حقيقةٌ يمكنُ تعريفها كــ ” الحياة المنيرة ليسوع ” ( را . هـ . شيلير ) . وذلك أنّ معرفة الإيمان ، لا تدعنا للنظر إلى حقيقة ” محض باطنية ” . فالحقيقة التي يفتحها الإيمان – الوجه القائم من الموت أمامنا ، هي حقيقة تتمحور حول ( اللقاء مع المسيح ) حول إدراك حضوره . وهنا يتكلّم القديس توما الأكوينيّ ، بهذا المعنى عن : الإيمان الذي يرى – الخاصّ بالرسل ، أمامَ الرؤية الجسديّة للقائم من بين الأموات . لهذا ، تقولُ رسالة نور الإيمان : رأوا الرسل يسوع القائم من الموت ، بأعينهم وآمنوا ؛ بمعنى إنّهم استطاعوا ” الولوج ” إلى عمق ما رأوه كي يعترفوا بإبن الله ، الجالس عن يمين الآب .
لهذا ، هل نقدرُ ، بعد كلّ ما قلناهُ ، أن نجلسَ ونحاورَ الآخر ، بحقيقة أنّ يسوع هو إبن الله ، النور ، والحقّ ومعنى التاريخ والواقع كلّه ؟! صعبٌ ، لإنّ القضيّة هي قضيّة ” خبرة وجوديّة وعلاقة ” ، وليست نظريّات وأفكار وبراهين وأمانة علميّة رياضيّة توضعُ على مائدة البحث والتقصّي للجدل والمناظرة لإثبات صدقها من عدمها .. نظريّات ومجادلاتٌُ تافهةٌ لا معنى لها ولا أساس لها ، أشبهُ بمَنْ ” يدقّ الماءَ بالمطرقة ” .