____
يقولُ الكاردينال اللاهوتيّ فالتر كاسبر في كتابه ( يسوع المسيح) : إنّ الجمعة المقدّسة ، والفصح ، والصعود ، والعَنصرة ، تؤلّف سرّا لا يتجزّأ ، فصحَ الربّ الوحيد ، إنتقال يسوع الوحيد بالموت إلى الحياة ، إنتقالا يُنيلنا به أيضا ، في الروح القدس ، حياة جديدة .
هذه الوحدة بين القيامة والرفعة التي تكادُ تشهدُ لها كلّ كتابات العهد الجديد ، تبدو كأن لوقا قد حطّمها ، إذ أدرجَ بين القيامة والصعود مدّة أربعين يومًا . ومن جهة أخرى ، يبدو لوقا ، خلافا للكتابات الأخرى في العهد الجديد ، كأنه يصفُ الصعود كــ ” إختفاء يسوع على وجه محسوس خارجيّا ” ( أعمال الرسل 1 : 9 … ) . وهذه النصوص ، أثّرت تأثيرًا بالغـًا في تصوّرات الإيمان الشائعة . ولا بدّ هنا من ملاحظة أنّ الأربعين يومًا عند لوقا ، يجبُ أن لا تُعتَبر كدلالة ٍ تاريخيّة دقيقة ، بل كرقم كامل . فالأربعون رقم مقدّس ( مسيرة اليهود في البريّة ، إقامة يسوع في البريّة ) . وفي الواقع ، كان الأربعون الرقم الوحيد المتوفّر للدلالة على مدّة من الزمن ” غير قصيرة ” . المقصودُ إذن ، زمن غير قصير المدّة ، يُبرَزُ أهميّة ، إنه الزمن الذي ظهر في أثنائه القائم من الموت للتلاميذ ..
لماذا إذن أقام المسيح القائم على الأرض هذه المدّة ، قبل صعوده إلى المجد … ؟
لو صحّ الإفتراض الذي يزعمُ ، أنّ القيامة والزمان الذي وليها ، لم يكونا سوى نتاج فكر ذاتيّ لخبرة دينيّة مرضيّة ، أسطوريّة ؛ لكانَ مضطهدُ الأمس وربُّ اليوم سحقَ أخصامه ولاشكّ سحقا ذريعًا ، ولكانَ أشاعَ في الهيكل روعة عظمته ؛ ولكانَ رفع أتباعه إلى أسمى المقامات والمراتبْ ، ولكانَ درّب تلاميذه على طقوس عجيبة ، ولكانَ حدّثهم على أسرار السماء ، وكشفَ لهم غوامضَ الغيبْ ، وأطلعهم على بداءة الأشياء ونهايتها ؛ هذا ما كان سيجري من أمور . لكن ، لم يجر ِ ممّا ذكر أيّ شيء، ولم يكشفَ النقابَ عن سرّ ، وما من أثر ٍ لتدريب على طقوس ، ولم تُجتَرح من معجزة ٍ سوى معجزة ” وجود المسيح الممجّد ” ، وسوى معجزة الصيد التي كانت تكرارًا لسابق … ماذا حدث إذن ؟ حدثَ شيءٌ في غاية البساطة ، فالأعوامُ العابرة دخلت في الأبديّة: فتثبّتت أحداثُ الماضي ، وولجتْ حقيقة الحياة المنصرمة الماوراء ، فالأيّام التي تتكلّم عنها إنّما هي أيّام عبور إلى ما هو أبديّ .
نحنُ بحاجة ٍ إلى هذه الأيّام الأبديّة ، لأجل إيماننا . فعندما تبعثُ فينا كبرياتُ صور المسيح الأبديّ ، فننكر بذاكَ الذي يستوي على العرش عن يمين الآب ، وبذاك الذي يدين الأحياء والأموات ، وبذاك الذي يملكُ في الكنيسة والنفوس ، وينمو من أعماق البشريّة التي يدعوها الله إلى ” ملء قامته ” ، وفي الوقت نفسه ، يظهر فيما بيننا آتيًا من حدود الزمان ، ليبقى معنا إلى يوم ” تبتلعُ ” الأبديّة الأشياء كلّها .. عندما نفكّر بما سيظهرُ فيه الربّ مما ذكرَ من مظاهر عظيمة ، فإننا نوشكُ أن ننسى صورة وجهه الإنسانيّ ، وذلك يجبُ ألاّ يغيبَ عنّا قطّ ، وإنه لمن الضروريّ أن يظلّ المسيحُ الأبديّ القائمَ أيضا ، يسوع الناصريّ لتلك الحقبة من الزمن ، وأن ترتبطَ حريّة الروح القدس ، الذي لا يحدّ حريّته حدّ ، بشروط الزمان والمكان وغيرها من ظروف الفداء . إن الأبديّ حاضرٌ في الزمانيّ الأرضيّ ، والأيّام التي بقي فيها القائم من الموت أربعين يومًا ، هي عند لوقا ، ربط ووصل زمنُ يسوع بزمن الكنيسة . هنا الزمنان ” يتشابكان ” ، وهي إستمراريّة بين يسوع والكنيسة : إنها بدايةُ الكنيسة والحضور الحقيقيّ للربّ بيننا . ويريدُ أن يقول لنا المسيح القائم : أنا هو ، أنا هو ، ذاته : المصلوب والقائم .. لاتخافوا فلقد غلبتُ العالم . آمين .