1. إنّنا ننضمّ معاً إلى مسيرة الأجيال، لكي نواصل نشيد التطويب لمريم أمِّ الإله وأمِّنا. ومعها نعظّم الله القدير الذي صنع لها وبواسطتها العظائم. ويسعدنا أن نكرّم بين القدّيسين البابا يوحنا بولس الثاني، الذي نبارك تمثالَه في الباحة بمناسبة الذكرى السنويّة السابعة عشرة لزيارته في 10 أيار 1997، وقد وقّع في هذه البازيليك الإرشادَ الرسولي: "رجاء جديد للبنان"، في أعقاب الجمعيّة الخاصّة بلبنان لسينودس الأساقفة الروماني. وهو الذي كرّس ذاته لمريم متّخذاً شعار "كلّي لكِ"، يوم رسامته الأسقفيّة، وكان بعمر 38 سنة. فقادت هذه الأمُّ السماوية خطواتِه أسقفاً في كراكوفيا، وكردينالًا وبابا على كرسي بطرس. وقد كشف لنا في آخر عمره أنّ سرّ حياته مرتبط بمريم العذراء ومسبحتها.
2. ونكرّم، في هذه المناسبة المقدَّسة، القدّيس الجديد الآخر البابا يوحنا الثالث والعشرين الذي زار معبد حريصا سنة 1954، وهو الكردينال Angelo Roncalli، موفداً من المكرَّم البابا بيوس الثاني عشر، ليرأس احتفالات السنة المريميّة، بمناسبة مرور مئة سنة على إعلان عقيدة الحبل بلا دنس (1854-1954)، وليكرّس لبنان لسيدة حريصا. ومعروفٌ أنّ هذا المعبد أُنشئ بمبادرة من البطريركيّة المارونيّة والقصادة الرسوليّة، إحياءً لليوبيل الذهبي بمرور خمسين سنة على الإعلان المذكور.
3. إنّنا نجدِّد تكريس لبنان وهذا الشَّرق لقلب مريم الطاهر، ونلتمس شفاعة القدّيسَين الجديدَين، من أجل الخروج من أزمتنا السياسيّة بانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية في موعده الدستوري الذي يشرف على نهايته. فانتخاب الرئيس واستمراريّةُ وجوده يعطي الشرعية للمؤسّسات العامّة، فهو "رأسُ الدولة ورمزُ وحدة الوطن، ويسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه"، كما تنصّ المادّة 49 من الدستور. نصلّي لكي يُلهمَ اللهُ الكتلَ السياسيّة والمجلس النيابي حسنَ إجراء هذا الانتخاب، واختيارَ الرئيس الأنسب في الظروف الراهنة لخير لبنان ومؤسّساته. إنّ "انتخاب الرئيس هو الشّرط الأساس الذي من دونه لا حضور للدولة ولا انطلاق نحو المستقبل" (المذكِّرة الوطنية، 21، خامساً). ولذا، الفراغ في سدّة الرئاسة الذي يُخشى منه، أو الذي يعمل له البعض، على ما يبدو، مرفوضٌ بالمطلق منّا ومن الشعب المخلص للبنان، لأنّه يطعن بالميثاق الوطني من جهة، لكون هذا الفراغ يلغي مكوِّناً أساسيّاً من مكوِّنات الوطن هو المكوِّن المسيحي (المرجع نفسه، 5)؛ ويطعن بالدستور من جهة أخرى، لأن الفراغ يناقض المسؤولية الدستورية التي توجب على النوّاب انتخابَ رئيسٍ للجمهورية بحكم المادّتَين 73 و75 من الدستور. وأيّ تفسير آخر مناورةٌ للوصول إلى الفراغ، ورميُ البلاد في المجهول. إنّنانحذِّر من مغبّة هذا الأمر، ونُحمّل مسؤوليته التاريخيّة للساعين إليه أو المتسبّبين به.
وإنّا، من على أقدام السيدة العذراء، سيدة لبنان، نجدِّد رجاءنا الوطيد بالله، ونحن نختبر كلَّ يوم أنّه، بيده القديرة الخفيّة، يُمسك بوطننا ويحميه من السقوط في كلّ مرّة يصل إلى شفير الهاوية. ذلك بفضل صلوات أبنائه وبناته، واستحقاقات دماء شهدائه الأبرياء، وصبر المواطنين الذين يتألّمون بصمت من نتائج أزماته السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة الوخيمة.
4. "ها منذ الآن تطوّبني جميعُ الأجيال (لو1: 46)
تستحقّ مريم أمُّنا الطوبى لأنّها فتحت الأرض لله، مثلما فتح يسوع السماء للبشر. مريم هي الباب الذي اجتازه الله ليأتي إلينا. إنّ أمومتها هي ضمانةُ التجسّد الإلهي الذي تحقّق. لولاها ولولا الطبيعة البشرية التي أخذها منها ابنُ الله، لكان المسيح خرافة، أو ملكاً من دون جذور تاريخيّة. لولاها لما التقى الله والبشرية في شخص المسيح. إنّها تنتمي إلى محور تاريخ الخلاص، وتجذّر الله في التاريخ البشريّ. فيها ينجلي سرُّ المسيح والكنيسة. من دونها، وهي وجهُ الكنيسة الداخلي، تبدو الكنيسة وكأنّها مؤسسة دوليّة سوسيولوجيّة. ولكن عندما تنظر الكنيسة إلى وجه مريم ترى وجهها كفي مرآة. وهكذا كلُّ مسيحي ومسيحية.
5. مريم باختيارٍ إلهيّ هي أمُّ المسيح، وبدعوةٍ من يسوع على الصليب أصبحت أمَّ البشر (راجع يو 19: 27). أمومتها المزدوجة هذهتكشف لنا رسالة الكنيسة، العذراء - الأمّ التي نولد فيها أبناءً وبناتٍ لله، كما تكشف دعوةَ كلّ إنسان ليعيش البنوّة لمريم وللكنيسة. ومن ناحية أخرى تكشف لنا مريم، بشكل غير مباشر، قلبَ الله، أعني: حبَّه ورغبتَه في تحرير الإنسان، مجّانيةَ مبادرته، تواضعَه الظاهر في جعل تحقيق سرّ حبّه خاضعًا لقبولٍ حرٍّ من خليقة بشرية، لقرارٍ من مريم التي ما كان باستطاعتها رفضَ الرسالة الموكولة إليها من الله بفضل اتّحادها العميق به. هذا يعني أنّنا، عندما ننظر إلى مريم، إنّما نقرأ خطوات الله في مجازفتنا البشرية، كما فعلت مريم نفسُها في عرس قانا الجليل، عندما قالت للخدم: "إفعلوا ما يقوله لكم" (يو2: 5)، فكانت آيةُ تحويل الماء إلى خمرٍ فائق الجودة. إنّها تعرف خطوات يسوع بحدس الأم. فهي لم تعطِ ابنها الطبيعة البشرية بالإعارة، بل أعطته ملامحَها وحركاتِها ومواقفَها. لقد أنسنت هذا الإله. وهو بدوره أدخلها في عمق ألوهيّته. فاكتمل فيها نموذجُ رسالة الكنيسة، ودعوةُ كلّ مسيحي، أعني رسالةَ تأنيس الله وتأليهِ الإنسان[1].
6. "لأنّ القديرَ صنع بي عظائم" (لو1: 49).
صنع الله القديرُ عظائمَ في مريم، أعلنتها الكنيسةُ تِباعاً عقائد إيمانيّة، على هديٍ من الروح القدس:
أ. فجعلها أمَّ الإله بالطبيعة البشرية، كما أعلن مجمع أفسس (سنة 431). فابنُ الله أخذ منها الطبيعة البشريّة، لكي يحرّر، بأسرار جسده، الإنسانَ من الخطيئة. وهكذا أعطت العالم الحياةَ نفسَها التي تجدّد كلّ شيء، وقد أغناها الله بالعطايا الملائمة لهذه المَهمّة. ولهذا دعاها الآباءُ والدةَ الإله.
ب. وعصمها الله من دنس الخطيئة الأصلية، لكي تكونَ أمَّ المخلّص الكلّية القداسة. هذه عقيدة أعلنها الطوباوي البابا بيوس التاسع في 8 كانون الأوّل 1854، معلناً أنّ الطوباوية العذراء مريم عُصمت من وصمة الخطيئة الأصليّة، منذ اللّحظة الأولى من الحبل بها، بنعمةٍ وإنعامٍ خاصَّين من الله الكلِّي القدرة، وكأنّ الروحَ القدس كوّنها وجعلها خليقةً جديدة، استباقاً لاستحقاقات يسوع المسيح مخلِّص الجنس البشري"[2]. ولهذا حيّاها الملاك جبرايل يوم البشارة "بممتلئة نعمة" (لو1: 28).
ج. وأراد أن تبقى أمُّ يسوع عذراء، قبل الميلاد وفيه وبعده. فمنذ أولى صيغ الإيمان، والكنيسة تعترف بأنّ يسوع، ابنَ الله، حُبل به، بقدرة الروح القدس وحدها، في حشا العذراء مريم. هذا ما كشفه الملاك ليوسف في الحلم (متى1: 20). وبذلك تحقّقت نبوءةُ آشعيا النبي: "ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابناً يدعى عمّانوئيل" (اش 7: 14). فأعلنت الكنيسة في المجمع المسكوني القسطنطيني الثاني (سنة 553) (ق6) عقيدةَ بتولية مريم الحقيقيّة والدائمة، حتى في ولادة ابن الله إنساناً[3].
د. وأشرك اللهُ مريمَ في وساطة ابنها يسوع الخلاصيّة. فتبتهلُ إليها الكنيسة كمحاميةٍ شفيعة ومعينة ووسيطة. لقد ساهمت في عمل المخلّص مساهمةً لا نظير لها، بطاعتها وإيمانها ورجائها، وبمحبّتها المتّقدة، لكي تحظى جميعُ النفوس بالحياة الإلهية. وأصبحت على صعيد النعمة، أمًّا لنا، ومثالاً في قولها "نعم" لإرادة الله وتصميمه الخلاصي[4]. عندما قالت مريم "نعم" في فرح البشارة، أصبحت أمَّ يسوع ابنِ الله؛ وعندما قالت "نعم" في غمرة ألم الصليب، أصبحت أمَّ جسده السرّي أي الكنيسة.
ه. بلغت عظائمُ الله في مريم ذروتَها، بانتقالها نفساً وجسداً إلى مجد السماء. وهي عقيدة إيمانيّة أعلنها المكرَّم البابا بيوس الثاني عشر سنة 1950 بهذه الكلمات: "إنّ العذراء البريئة التي حفظها اللهُ من وصمة الخطيئة الأصلية، من بعد أن أنهت مسيرة حياتها الأرضية، رفعها الربّ بجسدها ونفسها إلى مجد السماء، وتوّجها ملكةَ الكون، لكي تكون شبيهةً تماماً بابنها، سيّدِ السّادة، المنتصر على الخطيئة والموت". إنّ انتقالها مشاركةٌ فريدة بقيامة ابنها، واستباقٌ لقيامة جميع الناس[5].
7. بانتقال مريم إلى السماء، لا يتوقّف دورُها في عمل الخلاص. بل بتشفّعها تواصل التماس العطايا الإلهية التي تؤمِّن لنا الخلاص الأبدي[6]، وترافق بعنايتها وسهرها رحلة أبنائها وبناتها المسافرين في بحر هذا العالم، لكي يبلغوا شاطئ الأمان.
من شاطئ الخلاص، في عالمنا، نرفع الطوبى إلى أمّ الإله وأمّنا، وبواسطتها نرفع نشيد التعظيم والمجد لله، صانع العظائم في تاريخنا وفي القديسيَن الجديدَين البابا يوحنا الثالث والعشرين، والبابا يوحنا بولس الثاني، للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *