مقدمة: وثن، أيقونة وسر!
الإنسان كائن غير كامل، ولكن بعض الأمور يقوم بها ببراعة تكاد تكون كاملة، ولعل إحدى هذه الأمور هي خلق الأوثان والأساطير. ما هو الوثن؟ هو واقع محدود نضفي عليه أبعادًا مطلقة، هو خليقة نجعل منه خالقًا لامتناهيًا. نقيض الوثن هو الأيقونة. فالأيقونة هي واقع ملموس نعرف أنه كذلك، ولكنه يحمل رمزية ترفعنا صوب المطلق، صوب الله. في تعاريج محدوديتها، نفتح الأيقونة آفاقًا لامحدودية وإلهية.
أتحدث عن "الوثن" و "الأيقونة" لأنه رغبة هذه المقالة هي النظر في ظاهرة معاصرة تجعل من الحب البشري واقعًا مُطلقًا، نطلب منه أن يملأ مختلف حاجاتنا وتطلعاتنا ورغباتنا وعطشنا وكأنه إله كلي القدرة. المفارقة تكمن في أنه بقدر ما نثقل كاهل الحب بانتظاراتنا وتطلعاتنا وآمالنا، بقدر ذلك نرى كم من الأشخاص يتألمون ويتعذبون بسبب الحب.
يلاحظ في هذا الصدد الفيلسوف وعالم الاجتماع كسافيه لاكروا (Xavier Lacroix) أن مجتمعنا الحالي يعيش مفارقة كبيرة: فما من ثقافة أو حضارة قدّرت وعظّمت الحب بهذا الشكل مثل ثقافاتنا وحضاراتنا الحالية، وفي الوقت عينه ربما لم يكن هناك في الماضي قدر اليوم أشخاصًا جُرِحوا بسبب الحب ويعيشون الآن مخذولين ومتضعضعين بسبب جراحه التي لا يشفيها بلسم!
ولعل الكاريكاتور الذي يصفه أندريا غاسبارينو في أحد كتبه يعبّر، بفكاهته، عن وثن وأسطورة الحب الذي يملأ كل رغبات النفس. يقول الكاتب الإيطالي الراحل أن رأى يومًا في مجلة كاريكاتور عن الزواج يصور امرأة ضخمة وعملاقة تركض وراء رجل قزم وصغير صارخة: "يجب عليكَ أن تكفي كل حاجاتي، أن تشبع كل رغباتي، وأن تجعلني سعيدة!". الكاريكاتور يحافظ على بلاغته لو قلبنا الموازين وجعلنا الرجل مكان المرأة.
في مسيرة هذه المقالة التي ستصدر في عدة أقسام، نود أن ننظر بالعمق (ولو باختصار) إلى ملامح الحب والزواج في بعض مراحل حياة الكنيسة والمجتمع لكي نصل بعد ذلك للتأمل في مفهوم الزواج كسر. لن تكون هذه المقالة دراسة "أسرارية" و "لاهوتية تنظيرية" بل نظرة عملية وإلى حد ما تطبيقية تفيد في عيش الزواج بطريقة أقدس وأسعد!
بإيجاز السؤال الذي سنحاول أن نجيب عليه في ختام هذه المقالة هو التالي: ما هي الوسائل التي تساعدني على عيش حب ناضج وسعيد؟
(يتبع)
قصة شفاعة عظيمة من العام 1945
نعلم من التقليد الرسولي والكنسي أن يواكيم وحنّة ، والدّي العذراء مريم ، قدّماها لتتربّٓى وتخدم في الهيكل ، منذ صغرها . وذلك انّٓ حنّة كانت عاقراً . فطلبت من الله أن يعطيها ولداً لتنذره وتكرّسه لخدمته تعالى ، فرزقها هذه الإبنة الممتلئة نعمةً .ولما بلغت الثالثة من عمرها ، أخذها أبواها وقدّماها للربّ عن يد زكريّا الكاهن ، لتسكن قريباً من هيكل أورشليم .وهذه التقدمة كانت أفضل التقادم وأقدسها ، منذ أن بُني الهيكل ، لأنها تقدمة إبنة تفوق بقداستها وجمال نفسها وجسدها سائر الملائكة والقدّيسين والبشر ، وكان ابن الله مزمعاً أن يحلّٓ في أحشائها ويتّخذ من جسدها جسداً بشرياً كاملا ً .فأصبحت مريم بكل قواها لله ، تتفرّغ للصلاة والشغل اليدويّ وتتعلّم القراءة وتنكّبُّ على على مطالعة الكتب المقدّسة . فأدركت كل ما فيها عن تجسّد ابن الله . بقيت في الهيكل احدى عشرة سنة مُختلية بالله غارقة في بحر كمالاته .كانت تحب التعب والشغل وتتقن جميع أعمالها ، تنام قليلاً وتكدّ كثيراً . الفاظها عذبة ، منادمتها لذيذة . وكثيراً ما كانت تخاطب الملائكة وتناجي الله .أقامت في الهيكل حتى بلغت الخامسة عشرة من عمرها ، وعادت إلى الناصرة حيث قبلت سرّٓ البشارة . ثم أخذها يوسف خطيبها إلى بيته ، بعد أن ظهر له الملاك .
بشارة العذراء مريم الكلية القداسة والكاملة الطهارة ، هو انتقال من العهد القديم إلى العهد الجديد . وحدث بشارة العذراء مريم هو الذي أعطى الرجاء للمنتظرين مجيء المخلص يسوع .كتب القديس لوقا الإنجيليّ مشهد بشارة العذراء مريم في صورة متوازية مع بشارة زكريا ، قاصداً بذلك أن يُظهر العلاقة الوثيقة بين البشارتين ، وفي الوقت عينه ، لكي يُبيّن سموّ بشارة العذراء على بشارة زكريّا ويّظهر علاقة الله بالإنسان ، والإنسان بالله بصورةٍ أجد وأعمق . فإنها علاقة تتخطّى حدود العائلة البشريّة ، والحسب والنسب ، واللون والعرق والجنس ، والمكان والزمان ، والثقافات واللغات ، والعادات والتقاليد ، وهي علاقة حوار حرّ مع الله . فالله الحب المطلق يعرض نفسه على مريم ليكوّن في أحشائها المخلّص فتبادله بالمثل وتقول ” نعم ” ، وهي علاقة عطاء ذات الله لنا دون حدود وشروط ، بتجسّد إبنه من العذراء مريم . ” إنه لسرّ عظيم ” سر ٌ فائق ، تمّ بعد انتظار واستعداد طويل لتحقيق وعد الله في ” ملء الزمن ” ، وهي ايضاً علاقة عطاء ذاتنا لله مثل مريم : وهكذا تبقى مريم العذراء مثالاً حياً سخياً لكل مؤمن ، لأن نعمة الله ، التي وجدتها مريم في البشارة ، قد وجدتها لنا أجمعين ، فعلينا أن نعمل بها .