إذا كانت النظرة التي عرضناها في القسم السابق متشائمة وتهديمية لسر الزواج وغير مؤاتية لفهمه، هناك في المقابل نظرة أخرى تأليهية للحب وللثنائي، وهي ليست أقل ضررًا بالزواج وبالعلاقات الطويلة الأمد. يتساءل الفيلسوف كزافييه لاكروا في كتابه "سراب الحبّ" (Les mirages de l’amour): "من منا اليوم ليس مغرومًا بالحب والغرام؟" ويذكرنا سؤاله باعتراف أغسطينوس الشاب في الفصل الثالث من كتاب الاعترافات عندما يقول: "كنت أُحِبّ الحب" وكان يقصد أنه لم يكن يُحب حقًا، بل – كما يوضح الأستاذ كوستي بندلي أيضًا- كان يحب الشعور الذي يولده الحب، تلك اللذة الباطنية التي يولدها فينا الغرام، لهفة القلب تلك التي نتوقها ونستسيغها والكثيرون يفتشون عنها وكأنها جوهر الحب وبرهان أصالته.

في دراسة حول تأثير الأفلام الرومانطيقية على الثنائي (الكوبل) توصل الباحثون إلى ملاحظة أن الكثير من هذه الأفلام تولد لدى الشريكين – والمرأة بشكل خاص – توقعات وهمية وانتظارات خيالية تجعل الثنائي غير لائقًا مع المقارنة مع الصورة اللاواعية والكامنة لكيف يجب أن يكون الحب. معظم الأفلام الرومانطيقية تنتهي بـ "نهاية سعيدة" ما هي بالحقيقة إلا بداية، بداية علاقة سَتَمرّ في معارج الحياة اليومية ورتابتها ومسؤولياتها. ولكن قلة من الأفلام تتوقف لسرد هذه الحياة "العادية"، إذ تفضل فوران الفترة السابقة للعلاقة الوطيدة التي تملك إثارة خاصة تتمثل برعشة اللقاء الأول واكتشاف الآخر ومواجهة العقبات الأولى.

هذا، وعلى صعيد آخر، أظهرت دراسة أن مشاهدة الأفلام الخلاعية (البورنوغرافية) تحول مخيلة الشريكين – في هذه الحالة الرجل بشكل خاص – فيبدأ بعيش العلاقة الجنسية كبحث أناني عن لذة خاصة، يضاف إليها خيال ملوث بنساء سريعة الاشتعال ودائمة الاتقاد فيفقد رغبته في مرافقة شريكته بحب وانتباه في عيش خبرة جنسية هي ليست على هامش الحب بل من صلبه، كتعبير عن انتباه خاص وشخصي وحميم لحاجات شريكته.

بالعودة إلى تحليلنا، يبدو الحب في عصرنا وكأنه الكلمة السحرية التي تحل أية مشكلة وتزيل أية كآبة. الحب هو كل شيء: هو الانسجام المتبادل، هو الاتحاد فوق كل انقسام، هو الواحة السعيدة في وسط صحراء هذا العالم. يبدو الحب وكأن سبيل الخلاص الوحيد من ضياع عالمنا الذي لا ينظر إليك في وجهك بل يعتبرك رقمًا من الأرقام، ويظهر الحب هنا مثل طريق النجاة من الهوية المجهولة. بكلمة، نعيش في حقبتنا تأليهًا للحب ونحمل في يقيننا صورة ومفهومًا مراهقيًا للحب. المشكلة أن مفهوم المراهقة هذا، لا نحمله فقط في فترة محددة من وجودنا، بل في مختلف مراحل حياتنا. من هنا نجد الأشخاص الذين يفتشون عن فوران الحب ودقات قلب الغرام حتى مع تقدمهم في السن.

ولذا، يتساءل لاكروا بتعجب كيف أن ثقافتنا، التي تفتخر بأنها حضارة علمية ووضعية، كيف أنها لم تدمر أسطورة الحب، بل عظّمَتها وجعلت منها ملجأ جميع البائسين واليائسين. ويضيف: "لعل ثقافتنا المعاصرة تدرك جوهر الحب السامي؟ أو ربما بات الحب في أيامنا هذه واحدًا من آخر الأمور التي نعبدها، الملجأ الأخير للأسطورة، للسحر وللبعد الديني في عالم علماني؟ لربما بات الحب التألق الوحيد لعالم فقد تألقه؟".

يبدو وكأنه، في ظل زوال أفق المعنى، بعد أن هجر الإنسان المعاصر "الروايات الماورائية" كما يسميها الفيلسوف جان فرنسوا لويتار (Jean François Lyotard)، بقي الحب رمزًا وطلاً من أطلال الماضي والجذور، بقي الحب نجمة قطبية توجه خطى الباحثين عن حياة سعيدة، مليئة بالمعنى. وواقع الحال هو هذا: من الثنائي الزوجي ومن الحب نتوقع كل شيء: التناغم، التوازن، المتعة، الرفاهية، الانسجام الجنسي، التفاهم الفكري، اللقاء الثقافي، التواصل الحميم والدائم، المشاركة الكاملة، إلخ.

هذا ويجب أن نذكر أن الزواج في الحقبات الماضية كان يرتكز على أسس الدين، الثقافة، العائلة، المصالح العائلية والقبلية... وكل ذلك على حساب البعد العاطفي، الذي كان منفيًا أو مهمشًا. اليوم نرى أن التركيز كل التركيز بات على البعد العاطفي، الذي – بالطبع – لا ننكر أهميته، ولكن الإحصاءات تبين لنا أن ارتكاز الزواج على البعد العاطفي وحده يثقل وزر هذا البعد ويسحقه بسرعة. كلنا نعرف كيف أن البعد العاطفي في أية علاقة يمر في مراحل ازدهار وقحل، ولا يمكن أن يكون عنصر التمييز والخيار في العلاقة ولا يمكن أن يكون وحده الركيزة الأساسية لها.

بكلمة نرى أن مفهومنا للحب بمعناه العاطفي البحت قلب إلى حد ما تعريف رسالة يوحنا الأولى: "الله محبة" (1 يو 4، 16). فالآن نحن بصدد تأليه الحب: "الحب هو الله".

ولو كان هذا الأمر له نتائجه الإيجابية، لكنا ركنّا إلى هذا التحول، إلا أن الإحصاءات والخبرات – كما أشرنا أعلاه – تبين أن التركيبة الحالية ليست ناجحة. فزواج من أصل إثنين في العواصم الكبرى (مثل باريس) ينتهي بالطلاق. نسبة 50 بالمائة هي نسبة عالية جدًا!

يمكننا أن نقول أن الثقافة التي قدست الحب أكثر من أية ثقافة سابقة هي الثقافة التي تدنسه أكثر من غيرها ربما. يصرح لاكروا بهذا الصدد بأن الثقافة التي نمى فيها البعد الفردي إلى حد الإفراط قد توصلت إلى هذا النمو على حساب البعد الموضوعي وعلى حساب المرجعية الموضوعية. ولذا، في واقع الحال، بات الحب ورقة خريفية هشة في وجه عواصف الحياة المعاصرة التي تلوّح به كراية فخر ثم ترمي به في غياهب النسيان.

ما الحل؟ بكل تأكيد الحل لا يكمن بالرجوع إلى ممارسات المجتمعات التقليدية التي لا تترك للحب مكانًا. كلا وألف كلا. الحب ليس عقدًا اجتماعيًا وحسب، الحب والزواج ليس سلعة. هناك "حل وسط"، بل هناك "سبيلٌ أفضل"، إذا أردنا استعمال كلمات القديس بولس، وفي الأقسام التالية من المقالة سنتحدث عنه.

(يتبع)

يمكنك مراجعة الأقسام السابقة من المقالة على هذه الروابط:

القسم الأول

القسم الثاني