1. سؤالُ يسوعَ ثلاثاً لبطرس عن حبّه له، هو للتأكيد أنّ محبةَ المسيح شرطٌ أساسيّ لإسناد المسؤولية في الكنيسة إلى أيّ شخص، وأنّ الغايةَ من السلطة نقلُ محبته إلى الآخرين في التَّعليم والتَّقديس والتَّدبير. والسؤال يُبيّنُ جوهرَ السلطة بأنّها خدمةُ الإنسان والخيرِ العام. فلا مجال لممارستها في العائلة والمجتمع والدولة، إذا لم تكن في قلب صاحبها محبةُ الله ومخافتُه. فينبغي على كلِّ مسؤول وصاحبِ سلطة روحية أو مدنية إعتبارُ سؤالَ الربّ يسوع موجَّهًا إليه شخصيّاً وباسمه: “يا سمعانُ بنَ يونا أتحبني؟ إرعَ خرافي” (يو21: 15).
2. يُسعدنا أن نحتفلَ معاً بهذه الليتورجيّا المقدّسة، بعد العودة من روما، حيث شاركنا في الاحتفال بإعلان القدِّيسَين الجديدَين البابا يوحنا الثالث والعشرين والبابا يوحنا بولس الثاني، صديقَي لبنان، وقد استشفعناهما من أجل استقراره وخروجه من أزمته السياسيّة بانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية قبل 25 أيار الجاري، كبابٍ للخروج من أزماته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
وبعد العودة من الزيارة التقوية إلى سيدة لورد، وقد قمنا بها مع منظّمة فرسان مالطه، التي نظّمت حجّها السنوي العالمي، وشارك فيه سبعةُ آلاف بين قادة وأعضاء ومرضى ومُحسنين ومتطوّعين، وشارك من لبنان مئتان وخمسون شخصاً، بقيادة رئيس المنظّمة فيه السيد مروان صحناوي الحاضر بيننا. إنّي أجدّد له للمنظمة العزيزة، في المناسبة، شكريَ العميق على دعوتي للاحتفال بهذا الحجّ السنوي إلى لورد، حيث صلّينا الى العذراء، سلطانة السلام، من اجل احلال السلام في ارضنا وفي منطقتنا.
3. وإذ أرحّب بكم جميعاً، فإنّي أحيِّي بنوع خاصّ معالي وزير الداخلية والبلديات السابق العميد مروان شربل وعائلتَه، وأجدّد له ولها باسمكم وباسمي عاطفةَ التعزية بوفاة المرحوم والده الذي غاب عنّا منذ حوالي ثلاثة أسابيع، وقد أنعم الله عليه بعمر قارب المئة وثلاث سنوات، وبشيخوخة رضيّة مكرّمة حتى وفاته. إنّنا نذكره في هذا القداس، راجين له السعادة الأبدية في السماء والعزاء لأسرته.
4. ويطيب لي أن أحيّي بيننا سعادةَ النائب نديم بشير الجميّل ومعه رؤساء مناطق بيروت الكتائبية ووفدًا كتائبيًا. اننا نقدّر مشاركتكم معنا في الصلاة من اجل وطننا لبنان الذي يضعه حزبكم في صميم اسسه الى جانب الله والعائلة. فكان دائمًا المدافع عن موقع رئاسة الجمهورية، وقدّم لها رئيسين متتاليين. ونغتنمها فرصةً لنجدّدَ من خلاله نداءَنا إلى نوّاب الأمّة ليقوموا بواجبهم الوطنيّ الكبير والمشرّف، بانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية قبل الخامس والعشرين من هذا الشهر، أي قبل الأحد المقبل، وإلّا لَحِقهم العارُ وإدانةُ الشعبِ والدولِ الصديقة، إذا رمَوا سدّةَ الرئاسة في الفراغ، بعد ستّ سنوات عادية، عَمِلَ خلالها فخامةُ رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ومعاونوه في الحكم، ذوو الإرادات الحسنة، على إعادة لبنان إلى مكانته الإقليمية والدولية، ورئاسة الجمهورية إلى كرامتها واحترامها من كافّة الدول.
أمّا من جهتنا ومن جهة الشعب اللبناني المخلص للبنان، فلا يمكن أن نرضى بالفراغ في سدّة الرئاسة ولو ليومٍ واحد، لأنّه انتهاكٌ صارخ ومُدان للميثاق الوطنيّ لكونه يُقصي المكوّن الأساسي في الحكم الميثاقي في لبنان، وهو المكوّن المسيحي، ولأنّه انتهاكٌ صارخ ومُدان للدستور،الذي يأمر المجلس النيابي في مادتَيه 73 و74 إنتخابَ رئيسٍ على الفور. وليتذكّر الساعون إلى الفراغ في سدّة الرئاسة، والذين لا يرَون فيه أي مشكلة، النتائجَ الوخيمة التي خلّفها الفراغ في ما بين سنة 1988 و1990، وليتحمّلوا نتائج الفراغ، اذا حصل، معاذ الله!
على الجميع أن يُدركوا أنّ الرئاسة الأولى هي بمثابة الرأس من الجسد، تعطي الشرعية للمجلس النيابي والحكومة وسائر المؤسسات، وتضمن الاستقرار في البلاد، وتعطيها شرعيّتها الدولية. فلا أحد أعلى من الرئاسة، ولا أحد يحلّ محلّها. وأمام استحقاقها تسقط كلّ الاعتبارات الشخصية والفئوية والحزبية والسياسية.
كما نرحب ايضا برئيس مجلس ادارة، مدير عام المؤسسة العامة للاسكان الجديد روني لحود.
5. “يا سمعان بن يونا، أتحبّني؟ إرعَ خرافي” (يو21: 15). بهذا السؤال اشترط يسوعُ على سمعان بطرس أن تكون في قلبه محبةُ الربّ، لكي يكل إليه رعايةَ النفوس التي اقتناها بدمه. وشبّه علاقتَه بها بعلاقة الراعي بخرافه. إنّها خراف المسيح، لا خراف بطرس أو أي صاحب سلطة. قال له: “إرعَ خرافي”، لا خرافك. رعايتُها هي نقلُ محبّة المسيح إليها، وإيصالُ رسالته، وهي أن يبلغَ جميع الناس إلى معرفة الحقيقة وإلى الخلاص الأبدي” (1طيم2: 4).
يسوع هو الراعي الوحيد وله قطيع واحد. رعاةُ الكنيسة كلّهم خرافٌ في هذا القطيع. فهو عندما تألّم من أجل الجميع لغفران خطاياهم، جعل نفسه حملاً فصحيّاً. ما يعني أنّ رعاة الكنيسة مدعوّون ليتألّموا من أجل شعبهم، لكي يكونوا رعاةً حقًّا. فمهما كان الخوف من الموت والمحن كبيرًا، فإنّا نغلبه بقوّة الحبّ تجاه مَن أراد، وهو حياتنا، أن يتحمّل الموت من أجلنا. إذا كان الراعي الصالح، وهو المسيح، بذل ذاته من أجل الخراف (راجع يو 10: 11 و 18) فاجتذب إليه العديد من الشهداء وهم أنفسهم خرافه، فكم على رعاة الكنيسة أن يناضلوا من أجل الحقيقة والعدالة والخير، ويعتنوا بالخراف.
6. رعاية الخراف بمحبّة المسيح تقتضي إتّباع يسوع عبر طريق الألم. هذا ما أكّده يسوع لبطرس: “متى شخْت بسطْتَ يدَيك، وشدَّ آخر لك حزامك، وذهب بك إلى حيث لا تريد”. وبعد هذا الكلام، قال له: “إتبعني!” (يو21: 18-19). في هذا الاتّباع ليسوع يجد بطرس الاستقرار ويسلّم ذاته كلّيًّا للمسيح الربّ، وينقاد لتوجيهه، كما فعل في الصيد العجيب: “ألقوا الشبكة عن يمين السفينة، تجدوا”(يو21: 6)، فيصل إلى حيث لم يكن يتوقّع. هذه قصّة الذين يكلون نفوسهم إلى المسيح، ويستلهمون أنوار الروح القدس، وإلهاماته.
هكذا فعل القديس الجديد البابا يوحنا الثالث والعشرون الذي سلّم ذاته كلّياً لله، متّخذاً شعاراً لأسقفيّته: “طاعة وسلام”. كذلك القدّيس الجديد الآخر البابا يوحنا بولس الثاني، عندما فقد أمّه وأباه وشقيقه وشقيقته، ولم يبقَ له أحدٌ من عائلته وأصبح وحيداً، سلّم ذاته للمسيح ولمريم العذراء سيدة شيستوكوفا، في زمن النازية والشيوعية، ولبّى الدعوة إلى الكهنوت بعمر 22 سنة. وعندما أصبح أسقفاً بعمر 38 سنة، سلّم ذاته لله بواسطة السيدة العذراء متّخذًا شعار “كلّي لكِ”.
7. أن تكونَ محبّةُ المسيح شرطاً أساسياً في قلب مَن تُسند إليه سلطة في الكنيسة، فهذا الشرط مطلوب أيضًا في قلب المسيحي الذي يتولّى سلطة في المجتمع أو في الدولة، لكون السلطة فيهما من التدبير الإلهي. فالله الخالق وضع للعالم نظامًا لكي يعيشَ الناسُ والشعوبُ في سلام، ويتفاهموا ويرعَوا شؤون مدينة الأرض، فينعموا بالخير والعدل. لذا ينبغي على السلطة السياسيّة أن تستلهم إرادة الله وتصميمَه الخلاصيّ في كلّ عملٍ وتدبير. ما يعني وجوبَ أن تكون في قلب صاحب السلطة الزمنيّة محبّةُ الله ومخافتُه، “لكي يقضي بالعدل للشعب، وبالإنصاف للضعفاء”(مز72: 2).
8. تعلّم الكنيسةُ أنّ السلطة لا تأخذ شرعيّتها الأخلاقية من ذاتها، ولا تُمارَس ممارسة شرعيّة إلّا إذا سعت إلى توفير الخير العام وخير كلّ إنسان. وعلّم الربُّ يسوع أنّ “السلطة خدمة وبذلُ للذات” في سبيل الجميع، تفقد غايةَ وجودها إذا أصبحت تسلّطاً (مر10: 45). وشجب محاولةَ تأليه السلطة الزمنيّة وصاحبِها أو إعطائها صفةِ المطلق، أو جعلِها ديكتاتوريّة أو توتاليتاريّة. ودعا إلى التوازن بين الخضوع لله ولشريعته، وممارسةِ السلطة بمستلزماتها التدبيريّة والأخلاقيّة، بكلامه الواضح: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله” (مر10: 13-15). وأكّدبولس الرسول أن “لا سلطان إلّا من الله” وأنّه وُجد من أجل الخير العام، وتأمينِ حياة مطمئنّة وهادئة نقضيها بكلّ تقوى وكرامة (1طيم2: 1-2).
9. في ضوء هذا التعليم الإلهي، ينبغي تقييمُ ممارسةِ السلطة الزمنية عندنا، وتقييمُ أصحابِها، بالتمييز بين خيرها وشرّها؛ بين ما هو عدل وما هو ظلم؛ بين الخير العام وخيرها الشخصي والفئوي. من حقّ الشعب الذي “هو مصدر السلطات”، كما تنصّ مقدِّمة الدستور اللبناني (د)، أن يُسائلَ ويحاسبَ الذين انتدبهم بالانتخاب للخدمة في المؤسّسات الدستورية. ومن حقِّه أن يعترض على الظلم والإهمال، وعلى تعطيل عمل المؤسّسات، وعلى كلّ ممارسة لا تحترم المواطن، كلَّ مواطن، في حقوقه الأساسية، وحرياته الطبيعية، ولا توفّر نموَّه الشامل، روحيّاً وإنسانيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، ولا تؤمّن حاجاته من أجل حياة كريمة أي: الغذاء والدواء والصحة والاستقرار والحقّ في تأسيس عائلة وتلبية متطلّباتها المادّية والتربوية.
10. إنّنا في شهر أيار المريمي، نرفع صلاتنا إلى الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيدة لبنان، ملتمسين منه أن يُنير ضمائر نوّاب الأمّة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل نهاية موعده الدستوري، فينعمَ لبنانُ بالاستقرار، ويخطوَ خطواته الراسخة نحو معالجة أزماته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. كما نصلّي من أجل السلام والاستقرار في بلدان الشَّرق الأوسط ولا سيّما في مصر وسوريا والعراق والأراضي المقدسة. وليرتفع دائماً من لبنان وهذا المشرق نشيدُ المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *