قصيدة الأيام السبعة – خلق الكون

الأنثروبولوجيا المسيحيّة (3)

Share this Entry

هذه القصيدة تُنير أوّل صفحة من صفحات الكتاب المقدّس 1 : 1 – 32 و 2 : 1 – 3 . قصيدة شامخة حرّرها كهنة أورشليم إبّان الجلاء . ولقد أصبحت بمثابة فاتحة لرواية الفردوس القديمة ( تك 2 – 3 ) ، ومن ثمّ للأسفار الخمسة الآولى ، لا بل للأسفار المقدّسة كلّها . فإزاء الأساطير البابليّة ، تؤكّد ” رواية البداية ” هذه على أن إله إسرائيل هو الخالق الوحيد وبكلمته وحدها .

وقد لاحظ المفسّرون ، أنّ روايتي الخلق ، حُرّرتا في ضوء ” الخروج ” حيث الخلاص من العدم بالوجود . فضلا عن المعركة بين النور والظلام : يرمزُ النور إلى الله ( والمسيحُ نورٌ من نور ) بحسب قانون الإيمان ، وقد قال هو نفسه إنه هو ” نور العالم ” ، والظلام يرمزُ إلى إبليس وملائكته ، كما تصارعت ، في أثناء الخروج ، قوى الخير ( الشعب العبرانيّ ) ، وقوى الشرّ ( الشعب الفرعوني) . وعندما قالَ الله إنّ خلقه (حَسنٌ ) و (طيّب) و (صالحٌ ) بالعبريّة ” طوب ” ، فتلكَ صفتها أيضا تنبعُ من كلمته ، وهو مصدر وجودها ، كما هو مصدر صفتها الحسنةُ الطيّبة الصالحة .   وتلكَ الكلماتا العشر مثل وصايا الله العشر في سيناء ، أي أنها : تُنظّم الكون ، كما أنّ الوصايا نظّمت ، في سيناء ، حياة الشعب العبرانيّ مع الله نفسه وبين أنفسهم ؛ وقد سبقت رواية الخروج روايتي الخلق .

من جهة ٍ أخرى ، إنّ الكلمات العشر الصادرة من الله ، قد دوّنت في محيط ٍ ” طقسيّ ”  وبألفاظ ٍ طقسيّة . وذلك في محيط أسبوع كامل يختمه ( السبت ) . وبهذا المعنى ، فإنّ الزمان والمكان والمادة ، وكذا الإيقاعُ وتَردادُ القرار … جميعها تمثّل مقوّمات إحتفال ٍ طقسيّ كونيّ يرأسه الكاهن . وإنّ عمليّة الخلق ، بحسب القدّيس غريغوريوس النيصيّ ، ” ديناميّة – مستديمة ” ، إذ أن مشيئة الله تُريدها : فلا وجود للخليقة إلا لإن الله يريدها فيخلقها . لهذا ، فإنّ أسطورة الخلق أظهرت لنا غناها وعمقها وأبعادها اللاهوتيّة ، صعيد تصميم الله على الخلق ، و ” التنظيم ” في الخلق  ( أكثر منه الخلق من العدم  – الشعب اليهوديّ ، لم يكن يستعملُ كلمة عدم لإنها مأخذوة من الفلسفة اليونانيّة وليس لها أيّ مرادف عند الشعب العبريّ ، فهو شعبٌ بدويٌّ لا يدرك سوى المادّيات ، لذلك تحوّل مفهوم العدم إلى كلمة ظلام وكلمة مياه ، وبهذا كان إنتصارُ الله على الظلام في اليوم الأوّل إشارة إلى إنتصاره على العدم ، أي بدءُ الخلق ) ، وجانبُ ” الخروج ” من العدم إلى الوجود في ملحمة الخلق ، وطابع ” الطقس ” ، وصفتا ديناميّة الخلق وديمومته ، وفوق ذلك ، كون الله إلهًا ” يتكلّم ” كلمة ً فعّالة .

سبعة أيّام ، باليونانيّة Heptameron  ؛ لخلق الكون في سبعة أيّام ، له دلالةٌ لاهوتيّة عميقة ، تسمحُ للعقل البشريّ بإن يفهم أنّ لله قصدًا لهُ ” غايةٌ ” واضحة . ذلك بإنّ عمليّة الخلق ليس وليدة قوّة هوجاء ، بل تخطيط إلهيّ . لكن العظمة في سرّ الخلق والتخطيط الإلهيّ هذا ، أينَ نراهُ ؟ نراهُ ، بوجه ٍ خاصّ ، في كون الله ” يميّز ” و ” يفصل ” مثلا بين النور والظلام  تك 1 : 4 و 6 و 7 و 14 و 18 . وفي سفر يشوع بن سيراخ صدى لذلكَ  : ” لمّا خلق الربّ أعماله في البدء ، ميّز أجزاءها منذ ُ إنشائها ( سي 16 : 10 ) . وإنّ كلمة الله الخلاّقة ، كلمة زمنيّة متدرّجة على سبعة ِ أيّام تتخلّلها ثلاثة أوقات مميّزة مهمّة : اليوم الأوّل (خلق النور حيث النهار ) ، واليوم الرابع ( خلق النيّرات = التي تفصلُ بين النور والظلام ، أي بين الصبح والليل ) ، واليوم السابع (السبت) ، والأيّام الثلاثة هذه تتعلّق بالزمن ، في حين أنّ سائر الأيّام تتعلّق بالمكان : النبات ، الحيوان ، والإنسان نفسه . ولما كان هذا الفصل الأوّل من الكتاب المقدّس بمثابة ِ مدخل ٍ عامّ ، فإنه يفتتحُ زمنيّة التاريخ البشريّ ، التاريخ المقدّس تاريخ علاقة الله بالبشر . الدهشة الكبرى التي تضربُ أرواحنا من الداخل ، هي بداية إنجيل يوحنّا اللاهوتيّ ، الذي يضعُ يربطُ بين بدء الكلمة الأزليّة ، وبدءَ الخلق : ” في البدء كان الكلمة … ” يوحنا 1 .  إنها سيمفونيّة كونيّة مبدعةٌ ، وفيها أيضا نرى ، الفصل بين نور / ظلام . نورُ المسيح يزيلُ ظلام الشرّ وسلطانه ( الفوضى ! ) .

أساقفة فرنسا يقولونَ في هذا الصدد : ” في الخلق بـ” كلمة الله ” ، نجدُ الأساسَ لصدق الخليقة وحقيقة معناها ، فبالكلمة  يفصلُ الله بين الكون والخواء ، بين النور والظلام ، بين السماء والأرض …. ” لاحقا سنرى – نهاية لفقرة خلق الكون – القراءة الكهنوتيّة للخلق كقطيعة ، لندخلَ منها إلى موضوعنا الأساس : خلق الإنسان .

يتبع

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير