أحد أهم ما سيجري في تلك الزيارة الماراثونية هو لقاء قداسة البابا بقداسة البطريرك برتلماوس بطريرك القسطنطينية المسكوني الذي سبق و زار البابا فرنسيس في روما .
هذه الزيارة تأتي في الذكرى الخمسين للقاء تاريخي آخر تم في القدس بين شخصيتين كبيرتين في تاريخ كنيسة القرن العشرين : البابا بولس السادس والبطريرك المسكوني أثيناغوراس الأول ..
تحاول الأسطر التالية إلقاء بعض الضوء على لقاء 1964 والسياق الذي تم فيه ..
ولد بولس السادس (جيوفاني باتيستا مونتيني)عام 1897 في عائلة أرستقراطية في شمال إيطاليا . عمل سنوات طوال في سكرتاريا دولة الفاتيكان (ما يعادل وزارة الخارجية) بعد سنوات في دراسة الحق القانوني وكان مسؤولا عن أعمال الإغاثة التابعة للكرسي الرسولي في الفترة العصيبة التي شكلتها الحرب العالمية الثانية أثناء حبرية بيوس 12 (1). عين كاردينالا عندما كان رئيسا لأساقفة أبرشية ميلانو ذات الثقل في إيطاليا. كان مقربا من الطبقات الفقيرة حتى تم وصفه ب(مطران العمال) . عول عليه الكثيرون استئناف أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني الذي دعا إليه البابا القديس يوحنا 23 عام 1959 والذي افتتحت أولى جلساته في أكتوبر 1962 . توفي يوحنا 23 في حزيران 1963 أي قبل انعقاد الدورة الثانية للمجمع الذي قاده بنجاح بولس السادس رغم كل العثرات والصعوبات.
أثيناغوراس ولد عام في اليونان عام 1886 وأتم دراسته الاكليريكية في المدرسة البطريركية في هالكي (Halki ) قرب استانبول (والتي أغلقتها الحكومة التركية عام 1971 وما زالت مغلقة حتى الآن) , عمل سكرتيرا لأسقف أثينا قبل أن يعين أسقفا على خورفو عام 1922 ومن ثم أسقفا على أميركا الشمالية عام 1930. من المعروف أن الحكومة التركية لا تعترف حتى الآن بالصفة المسكونية لبطريرك القسطنطينة ضمن الشركة الأرثوذكسية وتفضل تسمية باسم “بطريرك الفنار” نسبة لمقر البطريركية معتبرة ولايته مقتصرة على “روم” تركيا .
لقد سبق وأبدى أثيناغوراس رغبته بلقاء بولس السادس وتم ترتيب اللقاء أثناء رحلة “الحج” التي قام بها البابا بين 4 و6 يناير كانون الثاني 1964.
رحلة “حج” . كان بولس السادس مصرا على الطابع الديني للزيارة. إنه أول بابا يغادر أيطاليا منذ بيوس السابع (2) ولولا ازحام الناس حوله على طريق الآلام (3) لكان من المقرر أن يحمل صليبا طوال مراحل درب الصليب ككل حاج.
تم لقاء البابا بالبطريرك المسكوني مرتين في تلك الزيارة عملا خلالها الرجلان على تبادل علامات المحبة والاحترام .الأولى عندما زار أثيناغوراس بولس السادس في مقر النيابة الرسولية قي القدس يوم 5 يناير كانون الثاني وقام بولس السادس بتقدمة كأس قربان لأثيناغوراس علامة على الاتحاد والشركة بين الكنيستين وصليا معا الصلاة الربية كل بلغته اللاتينية أواليونانية والثانية في اليوم التالي في مقر البطريركية الاورثوذكسية يرد بها بولس السادس الزيارة لأثيناغوراس الذي قدم للبابا صليبا أسقفيا يحمل أيقونة وضعه بولس السادس مباشرة حول عنقه , وقاما معا بمباركة جموع المصلين.
لا نستطيع فهم هذا للقاء من دون المجمع الفاتيكاني الثاني وأجوائه التي دفعت نحو مزيد من انفتاح الكنيسة الكاثوليكية باتجاه شقيقاتها وحتى أتباع الديانات الأخرى. فأمانة سر وحدة المسيحيين التي أنشأها يوحنا 23 لتشجيع غير الكاثوليك على إرسال مراقبين للمجمع , ثبتّها بولس السادس عام 1966 كمجلس (ديوان) دائم في دوائر الكرسي الرسولي وكان بالغ الاحترام لتقاليد الكنيسة الشرقية في محاولة الانفتاح على الكنائس الأرثوذكسية.
هل كان للقاء نتائج فيما بعد ؟ بلا أدنى شك نعم .
– في ختام المجمع الفاتيكاني الثاني تم إلغاء الحرم المتبادل الذي أقدمت عليه كنيستا روما والقسطنطينية كل منهما بحق الأخرى عام 1054 , يوم 8 ديسمبر 1965 في بيان تلي في وقت واحد في روما والقسطنطينية .
– انبثاق لجان حوار وعمل لاهوتية مشتركة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات ولو بعد وفاة “بطلي ” لقاء 1964(4).
-أخرج اللقاء أثيناغوراس من جو التضييق الذي يعانيه من جراء ممارسات الحكومة التركية وظهرت عالميا مكانته المسكونية. رغم أن تعيينه كان محاولة من تركيا للتقرب من الولايات المتحدة التي ساندت انتخابه بطريركا عام 1948 (5) .
بعد خمسين عاما ها هو “لقاء الأحّبة” يعود من جديد ونأمل أن يكون لبنة أخرى لتحقيق رغبة يسوع :
“ليكونوا بأجمعهم واحدا” ..
::::::___
(1) عند زيارته للناصرة عام 1964 أشار بوضوح ودبلوماسية إلى الدور الذي لعبه بيوس 12 في مساعدة ضخايا النازية بعد الجدل الدائر (والمستمر حتى الآن) حول “صمت” (بحسب ادعاء البعض) البابا بيوس 12 أمام ما جرى ليهود أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية. يمكنمراحعة النص الكامل لكلمته على موقع الفاتيكان على الانترنت
(2) الذي غادر إلى فرنسا وبقي فيها في فترة 1812-1813 قبل توقيع اتفاق الكونكردا مع نابوليون
(3) Via Dolorosa
(4) توفي بولس السادس عام 1978 وأثيناغوراس 1972 .
(5) وضع هاري ترومان طائرة خاصة بتصرف أثيناغوراس عند مغادرته لاستانبول .