خلقُ الإنسان .. " لنصنع الإنسان على صورتنا كــمثالنا "

الأنثروبولوجيا المسيحيّة (5)

Share this Entry

من هي هذه الجماعة التي قرّرت أن تصنع ؟ ليس من عادة الثقافة العبريّة إستعمال صيغة الجمع للمفرد من أجل الإحترام . فهذه العادةُ ظهرت في الثقافة الرومانيّة ، وتحديدًا أيّام ديوقليديانُس ( القرن الرابع الميلاديّ ) . سنرى تباعًا ، أنّ خلق الإنسان حصل من خلال ” التشاور ” ، الجماعةُ التي خلقت هي ” جماعة الثالوث ” ، في عمل ٍ مشترك : الآب يُنظّم ، الإبن ( الله الكلمة ) يتكلّم ، والروح القدس يحملٌُ برفيفه على المياه الأوّلية أمرَ البزوغ . ويتطلّب هذا العملُ المشترك إقرارًا بـــ” الغيريّة – Altérité ” ، وإحترامًا للإختلاف ، وتفاهمًا للوصول إلى مشروع مشترك .

يُظهِرُ ذلك التبايُن بين خلق الكون وخلق الإنسان ، ما آولى الله الإنسانَ من مكانة ٍ مرموقة في قصده الإلهيّ ، ذلك بإنّ للخليقة كلّها وضعًا ، وللإنسان وضعه المميّز ، هو يختلفُ إختلافــًا نوعيّا جوهريّا عن سائر المخلوقات ( إنه على صورة الله كمـــثاله ) .

إذا عُدنا للوراء ، إلى الشرق القديم ، إلى مصر الفرعونيّة ، كان يُعتبر الملك  صورة الله ، إلاّ أنّ الكتاب المقدّس يعتبرُ أنّ الإنسان ، كلّ إنسان ، وكلّ رجل ٍ وأمراة ، لا الملكُ فقط ، هو ” صورة الله ” ؛ حتى إنّ بعض المفسّرين وصفوا ذلك بــ”  ديموقراطيّة نظرة الكتاب المقدّس ” . إنّ إستعمال صيغة الجمع ( لنصنع ) كما رأينا ، غير مألوفة في اللغة العبريّة على خلاف بعض اللغات التي تستعملها للتبجيل والتعظيم ما تجعله اللغة العبريّة .

والتفسيرُ المسيحيّ الثالوثي يقولُ : إنّ أقانيم الثالوث قد تشاوروا في شأن خلق الإنسان ( وقد لاحظ المفسّرون أنّ إسم الله في هذه الرواية بصيغة الجمع ” إيلوهيم ” وهو جمعُ ” إيل ” المفرد ) . ومن الراجح أنّ الأساطير كانت تصوّر  مجمع الآلهة ، من هنا صيغة الجمع ، إلاّ أنّ الكاتب المُلهَم احتفظ بتلك الصيغة ، بالرغم من أنّ الإله الوحيد الحقيقيّ هو إله الوحي ، ولكنّه الأوّل بين الآلهة والأعظمُ منهم جميعًا .

في هذا يقولُ القدّيس يوحنّا الدمشقيّ : ” تشاوُر الله الأبديّ غير المتبدّل “. ويقول القديس غريغوريوس النيصيّ : ” …. أمّا عند خلق الإنسان فقد كان ثمّة “شورى” ، لم يقلْ ، كما قال في المرّات السابقة : ليكن إنسان ! إعرف إذن كرامتكَ ، فلم يكن تكوينكَ بأمر ٍ منهُ ، بل بـــ” التشاور ” في كيفيّة إعطائك الحياة ككائن ٍ حيّ مكرّم . والذهبيّ الفم يُعطي أيضا تعاليمه بهذا الشأن ويقول

” قوله : لنصنع ، لا يُشير إلى الرغبة والفكرة وحسب ، بل إلى إعلان مَنْ هو مساو ٍ في الكرامة ، فأيّ من خلائقه أوليَ هذا الشرفُ العظيم ؟! إنه الإنسان ، الكائنُ الحيّ العظيم المدهش ، وأشرفُ جميع خلائق الله ” .

يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني : ” إنّ سرّ الإنسان لا يتّضح حقا إلاّ في سرّ الكلمة المتجسّد ” . ذلك أنّ آدم ، الإنسان الأوّل ، كان صورة الإنسان الآتي ، أي صورة المسيح الربّ ( روم 5 : 14 ) ؛ فالمسيحُ ، وهو آدم الجديد ، في الوحي عينه بسرّ الآب ، يُظهِر الإنسان لنفسه ويكشفُ له سموّ دعوته ( الفرح والرجاء 22 ) . يتبع

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير