هذه أرضي .. هنا وطني .. هذا أيماني .. هنا شهادتي

في البدء حقيقة المقال

Share this Entry

قبل أنْ أبدأ بتسطير هذا المقال، انتابني قلق ، وملأ الخوف زوايا مسيرتي، وتردّدتُ مرة ومرات إذ مَلَكَتْ على أفكاري صورٌ أتعبتني، وأُوحي إليَّ أن هناك انتقادات حادة تنتظرني وستلاحقني حيث أكون بسبب ما يحمله المقال ومضمونه، لأنني أنادي بعدم الهجرة، وكفى الرحيل إلى المعلوم أو المجهول، فأكون بذلك ضد خط مسار المخطَّط الخفي والذي يرسمه لنا الغرباء، وأيضاً أبناء الديرة والجيرة، عبر أشخاص لهم غايات وأساسات كما هم علامات في مسيرة الزمن من أجل تدمير شعبنا _ بدراية وتصميم وإن غير معلَن _ بإفراغ الوطن منهم وتهجيرهم إلى حيث كُتِبَ عنهم بعلمه المحدود كما في فكره القصير المدى… ولكن لنداء إيماني وإحساسي في عيش الحسّ الإيماني والحسّ الوطني سطّرتُ هذا المقال عملاً وطاعةً ووفاءً لرسالتي الكهنوتية، ولِمَا تقوله الكنيسة أمّي والإرشادات الرسولية، وما يوصي به آباء الكنيسة الأجلاء في مؤتمراتهم ولقاءاتهم، وأكثر من ذلك الحسّ الوطني الذي به أكون رايةً وكلمةً في مسيرتي وشاهداً للحقيقة أقول: هذه أرضي.. هنا وطني.. هذا إيماني.. هنا شهادتي.. ولا غير، مهما تكالبت الظروف وصَعُبَت مسارات الحياة، وقُتِلَ الحوار وإنْ كان جنيناً، ومُنِعَت الحقيقة من إعلانها وقولها على مسامع كبار الزمن وصغار الطرق، نفاقاً وغِشّاً وكذباً، والويل لنا ولزمننا ولكبار عالمنا الذين جعلوا من دنيانا حقيقة سماوية في عولمة مزيّفة.

    نعم صحيح … وصحيح

صحيح إننا ندرك جيداً مخاوفنا ومعاناتنا، فبعضٌ منا فقدوا أعزّاءهم وأحبّاءهم وأهاليهم وحتى أموالهم وأملاكهم وهُجّروا من بيوتهم، وبهذا يكون المسيحيون في مقدمة المكوّنات التي تعرضت _ ولا زالت تتعرض _ للإقصاء سياسياً واجتماعياً وأيضاً ديموغرافياً وحتى وظيفياً، وفي ذلك كله يتناقص عددنا يوماً بعد يوم، إضافة إلى الآلاف من الشهداء السعداء الذين سكبوا دماءهم بسبب حقد الآخر وكراهيته للمسيحي المسالم، وأيضاً ما قاسوه بسبب تدمير أماكن عبادتهم وكنائسهم عبر انفجارات وإحراق وتهديد من قِبَل جماعات متشددة مدّعية إنها تعمل من أجل الله، وإنها نصّبَت نفسها الناطق باسمه تعالى ولها الحق في تفسير الإيمان وإصدار الفتاوى كما يحلو لها وكما تشاء، ولكل حالة ميزان خاص بها، وحكم بمرسوم معلَن على الملأ، وضاعت الحقيقة. إضافة إلى العصابات المسلحة المنفلتة حيث تم استخدام الدين لتبرير الأعمال الإجرامية والتي كلّفتنا أرواحاً وأموالاً وضحايا أبرياء _ ولهم الحق هكذا يقولون _ لأننا أصبحنا لهم غنائم حسب تبريراتهم واجتهاداتهم المزيفة المختلفة، وبسبب العنف الذي أخذ محلّه متصدّراً الكلمة الأولى والأخيرة، أصبحنا في متاهة المسيرة، وبمرور السنين تعرض أبناؤنا إلى أنواع الاضطهادات، إنها اضطهادات من حكومات أو من دساتير وضعها آخرون من أجل مصالحهم دون النظر إلى حقوقنا كشعب أصيل، فهُمِّشت تعاليمنا، وشُوِّهت رسالتنا، ودُمِّرت حقوقنا وإنْ كنا أصلاء وأصيلين، وما علينا إلا الطاعة ولا يجوز النقاش، فالمرسوم لنا لا يسمح بذلك لأننا أقلية ربما مهمَّشة، أكيداً مهمَّشة، أو لا فائدة منها إلا لإعلانها عبر مايكروفونات الإعلام لإصلاح الصورة والسيرة، وفي ذلك أقول: ظهر لنا فرعون، ولكن أي فرعون!… بل فراعنة.

مسيرة حياة … وسياسات قسرية

ومهما يكن من أمرٍ، ومهما قيل أو يقال، فالمسيحيون يعتزّون بجذورهم وتاريخهم الموغل في القِدَم والعائد إلى الحضارات العريقة، كان الإيمان لهم عقيدة بشهادتهم ومسيرة حياتهم ومنذ ألفي سنة وحتى الآن بِعُسره ويُسره، بمسيرته المؤلمة وبأيام انشراحه، وكانت حياتهم انحناءً للملك وخضوعاً وخوفاً، فالأنظمة المتعاقبة على مدار الألفيَّتَين، مورس ضد المسيحيين سياسات قسرية وتصغيرية إضافة إلى ما ذكرناه سابقاً عبر تهجيرهم من قُراهم شمالاً ومن مدنهم في الوسط وامتداداً حتى الجنوب، ولا زال لحدّ الساعة يُنظَر إليهم أحياناً وكأنهم غرباء بل أكثر من ذلك دخلاء، ولا يحق لهم إلاّ النداء عبر الهواء ولا من سامع إلا لغايات.

   بين الوطن والرحيل

صحيح وصحيح وصحيح، هناك دواعٍ لترك الوطن، والحقيقة ليس من قِبَل المسيحيين فقط إنما من قِبَل أقوام وطوائف وشعوب ومسمّيات، بسبب الظروف الأمنية والمعيشية والأصولية، وخطورة الوضع ومأسويته، والتوجه إلى الغرب لحفظ النفس من أجل العيش بحرية وأمان بعيداً عن العنف والاضطهاد والتمييز والذي أصبح يُمارَس ضد المسيحيين عبر محاولات إقصائهم من مناطقهم ، عبر إغراء الخضراء، وتسهيل مسارات الهجرة بتصوير الآتي بالجنة الموعودة… هكذا أرادها أحبّاء اليوم ومصالح الأمس والمستقبل، وما تلك إلا علامات مثيرة للقلق إلى حدٍ بعيد، وبذلك تواجه كنيستنا خطراً كارثياً بل خطراً إيمانياً ووجودياً.

بين المواطنة والانتماء

في مفهوم المسيحية، الإنسان هو المساحة الأولى لمفهوم المواطَنة والانتماء، وهذا الإبداع المسيحي رسمه ربنا يسوع في ملكوت جديد، ودعانا لنشره بالطاعة لمشيئة الآب على الأرض كما في السماء، ولكن أضعنا البوصلة فأتينا الجحيم بدل السماء، وأصبحنا نتعاطى مع الشياطين أكثر من الله. نبشّر بقوة إبليس أكثر من الله، وأضعنا ربيع المسيحية بسبب ربيع الكون، وأصبحنا نفسّر حلمنا بمفهومنا لا بمفهوم المسيح وندائه،وتحت انوار الروح،  وبدأنا نشعل نورنا في ظلامنا ونسينا هبة الله أننا نور العالم لظلام العالم، ون
صّبنا أنفسنا أسيادَ أنفسنا بالمطلق عكس أن نكون أسيادَ أنفسنا بسيادة المسيح ربّنا علينا، ونسلّم حالنا للذي دعانا. فالمسيحيون يوحّدهم حب الوطن وكلمة الحقيقة، ومسيرة الايمان، ننادي وننشد وبكل شجاعة أن الوطن يجمعنا وهو الهدف كي ننال حقوقنا.

   شهادة الحياة والدم

أقول: على المسيحيين قبل كل شيء أن يكونوا أوفياء للإنجيل، والإنجيل ليس صيغة تحريرية وحسب بل هو أيضاً في بعض الأحيان التخلّي عن بعض الوسائل والنظر إلى الآخر نظرة احترام وكرامة، والتسلّح بالرجاء. فمََن يعيش في اليأس لم يختبر المسيحية… كما إن عيش المسيحية يعني الشمولية، بمعنى أن على المسيحيين عيش كل الصفات التي يتمتعون بها، لا لأنفسهم وحسب بل مشاركتها والعمل بها في المجتمع أيضاً، وإشعاعهم يتخطى أشواط الواقع الرقمي… والكنيسة ما تحتاجه اليوم هو حاجتها إلى شهود وليس مبشرين، فإنّ على الواعظ التعليم ولكن أيضاً شهادة الحياة وشهادة الدم، والبشارة هي العطاء للآخر وبناء الجسور وتكسير الحواجز، وما ذلك إلا تحدٍّ… إنه إنجيل الالف الثالث.

آباؤنا البطاركة

في مقالٍ قديم كنتُ قد سطّرتُه على المواقع الإلكترونية حينها، وفي بعض فقراته سطوراً من رسالة أصدرها آباؤنا الأجلاء البطاركة وعنوانها “الكنيسة وأرض الوطن” جاء فيها: أرض شرقنا مرويّة بدماء شهدائنا، عاش عليها آباء كنائسنا وقديسوها، وهي مهد الحضارات والأديان ومنبت الكنائس والأديار التي منها أخذنا هويتنا وإيماننا وحضارتنا. وحضورنا في هذا الشرق حيث أرادنا الله، يقتضي منا الأمانة للمسيح والتزام الشهادة لمحبته وتطبيق مبادئ إنجيله المقدس. ومهما تفاقمت الصعاب فإن لنا علامات رجاء ساطعة، فيما لكنائسنا من غنى روحي وثقافي واجتماعي ووطني ” ( مؤتمر البطاركة السادس عشر بزمّار- لبنان  16 -21 تشرين الاول 2006) .

   آثار في الذاكرة

لنعلم جيداً أنه لا أحد يحرّك ساكناً ليحمينا في حقيقة الواقع، فالأصوات التي تحمل إرادة طيبة وانفتاحاً نحونا في الداخل هم أكثر من أولئك الذين يسمعون إلينا في الخارج. والذين يسجّلون في دفاتر ملاحظاتهم هم أسرار ليس إلا لما نعانيه، ولكن مخططاتهم لا علم لنا بها إلا ربّ السماء. وأما في الداخل يريدون لنا خيراً، ولكن الخوف أحياناً يملأ قلوبهم بسبب مجتمعهم أو أصولييهم فتضيع الحقيقة ويبقى السكوت والصمت جالسان على عرش الاضطهاد أمام ملأ الدنيا. والصمت هنا ليس حياداً، إنه سكوت عن فساد وظلم وجريمة… وتسير قافلتنا ونحن عبيد، أما لهؤلاء وأما لأولئك، والحل يكمن في الأخير في الرحيل والهجرة وبيع الممتلكات خوفاً من!… فلا أمل في العودة ولا حقيقة في الحياة… وهذا ما يدعونا إلى أن نفهم واقعنا جيداً حتى لو كان واقع يشهد الموت المرير، المهم أن نتعلم كيف نكون حكماء، فنخرج من هبوب الإعصار ورياح الاضطهاد والدمار إلى حياة الشهادة، حاملين حبنا لأرضنا، وقلوبنا تفيض بِنِعَم إيماننا ولا أجمل. فاليوم معركة الوجود أعتى من أي سلاح يحمله الأشرار، فإمّا أن نوجد كشعب مسيحي في أرض الله يسعى للسلام وإلى البناء، وإمّا أن نفنى ونموت وننكر أرضنا المشرقية ويضيع إيماننا وتضيع مسيحيتنا، وتُقلع أصولنا التي غنّينا لها آلاف السنين وزمّرنا بوجودنا فيها وأنشدنا تراتيل المحبة والإيمان والوطن. وسنبقى آثاراً في الذاكرة، ومن المؤسف ربما أضعناها بسبب خوفنا وفزعنا وعدم تلاحمنا، ومن ذلك  حتى شجرُنا لم يعد يُذكر أصوله، ونهرانا نشفت مياههما وحلّت محلّها دموعنا وآهاتنا، وكأن الدنيا ضاعت ولم تعد، ونسينا إن دنيانا ليست هنا وإنما حيث لا يصل إليها سارق ولا يفسدها سوس (لو33:12 )… إنها الحياة الأبدية حينما يشرق وجه المسيح علينا، فيقيمنا بغلبة الانتصار على الموت بشفاعة دمائنا وقديسينا وشهدائنا.

الهجرة … وسلطان اليوم

        من المؤكد نحن نواجه قرار المصير والوجود الإيماني المسيحي بسبب استمرار الهجرة، فالوجود رسالة يدعونا إلى أن نكون أمناء إلى حسّنا الإيماني والوطني، وعلينا أن نختار بوعي وإدراك ومسؤولية بين أن نصبر ونتحمّل، ونحمل الصليب ومسيرة الألم والمصائب والمعاناة والمظالم، وأن نتقبّل حتى قرار الموت ونكون في بلداننا شهوداً وشهداء… هكذا فعل أجدادنا في الماضي وآباؤنا في القرن العشرين، وواجهوا حدّ سيوف الأعداء بقاماتٍ شامخة وبصدورٍ عارية، وبرقابٍ لا تنحني إلا لله. وعبر قراراتٍ ظالمة حملوا حقيقة المسيح الحي فيهم، وبدمائهم سقوا شجرة الحياة الوافرة، فكانت دمائهم علامة سلام ومحبة وينبوع خلاص، وحافظوا على وجودهم ودينهم المسيحي، فكنا نحن أحفادهم، تحدّوا الحياة كأبطال من أجل أرضهم وإيمانهم.

نعم، دعوات مُحِبَّة من أجل البقاء، ومما لا شكّ فيه أن هذه الدعوات تحمل كلاماً جميلاً ونياتٍ بصور متعددة، وأهدافاً مختلفة ونوايا ومقاصد صادقة في معظمها أو في بعضها، كما صدرت نداءات مماثلة عن العشرات من القائمين في سلك المختارين من مسيحيين ومسلمين بتعدد طوائفهم وانتماءاتهم، ولم يستجب لها حاملو السيوف والبنادق، لأن المخطط أكبر من هؤلاء وأولئك، ولا زلنا في الربيع الدامي وهو ينتقل من عشيرة إلى عشيرة، ومن حارة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد، ومن مذهب إلى آخر، وأصبح الجميع في المعركة من الخاسرين. وهُزمت الأوطان، وابتُليت الشعوب بفقر الحال والمال والحياة، فضاعت القِيَم وبيعت الحقيقة بأموال مسروقة، ودرهم النفاق والغش والرياء، برفقة دينار ال
مصلحة والأنانية والمحاصصة والمحسوبية، ودُمّرت الحضارة، ورُفعت راية الموت وثقافته، بينما الآية تقول. مظالم نتعرض لها بشكل شبه يومي، فالكراسي وكبارهم، كلّها وكلّهم، ليست سوى صفقات مشبوهة لتجميل الصورة أمام المجتمع الدولي، وخداع العامة وإسكاتهم مقابل تحقيق منافع ومصالح شخصية لا أكثر، ولإظهار الأنانية قبل أي شيء آخر، وفي ذلك قد أضاعوا السراط المستقيم _ وإنْ كانوا له _ وكما يشاءون.

   يسوع … أيقونة الاضطهاد

قال البابا فرنسيس:”إن الاضطهاد لم ينتهِ بعد موت وقيامة يسوع، بل استمرت المضايقات على الكنيسة، واضطُهدت من الداخل إلى الخارج. ثم إذا قرئنا حياة القديسين، هم أيضاً عانوا الاضطهاد والعذاب لأنهم كانوا أنبياء”… وقال أيضاً:”إن كل الناس المختارين من الروح القدس _ ليقولوا الحقيقة ويعلنوها لشعب الله _ يعانون الاضطهاد. ويسوع هو أيقونة الاضطهاد الذي أخذ على عاتقه كل اضطهادات شعبه وحتى اليوم”… وأضاف:”نحن نعاني عقوبة الإعدام أو السجن إذا وُجد الإنجيل في المنزل، أو تمّ تعليم التنشئة المسيحية في بعض المناطق… إن تاريخ الاضطهاد هو مسيرة الرب، ومسيرة كل مََن يريد اتّباع الرب، إنما ستنتهي هذه المسيرة بالقيامة مثل ما فعل الرب… لم تنتِه بالصليب” (9 نيسان 2014؛ القديسة مرتا)… وقال أيضاً:”لا وجود للمسيحية بدون الصليب. فالمسيحية هي شخص رُفِعَ على الصليب. شخصٌ أخلى ذاته ليخلّصنا، فلا وجود للمسيحية بدون الصليب، ولا وجود للصليب بدون يسوع المسيح، فالمسيحي الذي لا يفتخر بالمسيح المصلوب هو شخص لم يفهم معنى مسيحيته… هذا هو سرّ الصليب. فالصليب الذي نجده في كنائسنا وعلى المذبح ليس للزينة، وليس مجرد علامة تميزنا عن الباقين، بل الصليب هو سرّ، سرّ محبة الله، (القديسة مرتا؛ الثلاثاء 13/5/2014).

   مسيرة تاريخية تناقصية

ابتدأت المسيرة المؤلمة منذ دخولنا عتبة الألف الثالث (2001)، وما حصل في 11 أيلول كان سبباً للهلع والخوف والمصير وبداية الربيع العربي القاتل، وازدادت في الثمانينات. كان تعدادنا ما بين المليون والمليوني نسمة ثم انخفضت هذه النسبة بسبب الهجرة خلال فترة التسعينات وحرب الخليج الثانية. وبعد احتلال العراق عام 2003 بدأت أعدادنا بالتناقص، ولوحظ انحسار كبير لوجودنا في العاصمة بغداد، فقدّرت المنظمات الدولية عدد المهاجرين المسيحيين من العراق بأكثر من 850 ألف مسيحي خلال الأعوام العشرة الماضية. فهُجّرت الآلاف من العوائل المسيحية من بيوتها عنوةً وعلناً أمام أنظار الحكومة وأمام أنظار المجتمع حتى أصبحت مدننا شبه خالية. لذلك نحن مدعوون إلى إبراز هويتنا ووجودنا وحقيقة حضورنا، عبر الوحدة والكلمة وليس عبر حمل الحقائب والرحيل إلى حيث أرض الله الواسعة، ومغريات الهجرة إلى خارج العراق، وعلى ما يبدو هناك مصالح لأشخاص وأحزاب واتجاه لإفراغ البلد من سكانه الأصليين… إنها نظرة خاطفة وسريعة على أوضاع أبنائنا المسيحيين في شرقنا، تبيّن لنا الحجم المخيف والمروّع للمعاناة والمآسي والمذابح التي تعرضوا _ ولا زالوا يتعرضون _ لها بسبب انتماءاتهم الدينية ومعتقداتهم ومبادئهم السلمية أمام أنظار العالم ومسمع حقوق الإنسان. أيليق بنا أن نتحدى وضعنا بحمل حقائبنا وببيع أملاكنا وبيوتنا والهجرة إلى البعيد البعيد شهادةً… لماذا ولمن!!!؟. ألا يجب علينا أن نكون بذاراً صالحة لأجيالنا، فتكون شهادتنا هي حقيقتنا، ولا يجوز أن نبقى تائهين على دروب الزمن، ومهاجرين وحاملين همومنا وبلايانا وصلباننا من أجل اللجوء والتوطين، وبذلك نقلع جذورنا من أرض أجدادنا، ونفرغ كنائسنا التي علينا واجب إنعاشها وحمايتها لتواصل مسيرة الإنجيل الخلاصية مسارها.

         نعم، رغم كل النداءات والدعوات التي يطلقها رجال الدين وغيرهم، فإن هجرة المسيحيين من العراق لا زالت مستمرة بشكل مخيف، وسبب ذلك معروف وواضح ولا يحتاج لتوضيح أو تفسير. إن الهجرة تستنزف وجودنا، وتسدّ آفاق مستقبلنا، ونحن نفتخر بأننا شرقيون مسيحيون ولسنا مسيحيين من الشرق، فنحن لسنا أقلية بل نحن سكان أصليون، لنا تاريخ أصبح جزءاً من تاريخ الشعوب، كنا ولا زلنا بُناة حضارة بلاد الرافدين والنيل، وساهمنا في نهضة اللغة والثقافة والمجتمع… فمسيحيتنا غِنىً لشرقنا ولا يجوز إنكار ذلك، فنحن منه وله ومن أجله.

لا يليق أن تكتظّ بوابات السفارات الأجنبية بنا خفيةً وبصورة لا يعلم بها إلا سبحانه وتعالى، ولا يسمع بها الجيران والأحبة وآل البيت، بطلبات اللجوء والهجرة ، وكأن العراق كله يهاجر هرباً من فقدان الهوية والفوضى والانهيار. ولكن من بين العراقيين مَن شهدوا هجرةً لا مبرر لها، ونزوحاً لا سابق له، مع إنهم جذوة العراق. فإنْ كان هناك أصوات تدعونا إلى أن نهمل البلاد ونغادرها بطرقٍ شتى وبسبلٍ مختلفة عبر منابر الزمن وسلاطين الدنيا وعبيد الكراسي بحجّة لمّ الشمل وحقوق الآخر، فالكنيسة ستبقى الشاهدة الأمينة مع أبنائها الأمناء على حقيقة الكرازة في أرض الوطن، ولكن أنادي قائلاً: أوقفوا نزيف الهجرة… أوقفوا هجرة المسيحيين عن العراق وسوريا ولبنان ومصر، بل والشرق الأوسط بأكمله.

  نعم… لنحافظ على أرضنا

الصمت والسكوت عن جرائم تُرتَكَب بحقنا ما هو إلا انسحاب غير مشرّف من المواجهة الحقة. والصمت ليس حياداً، إنه سكوت عن فساد وظلم وجريمة. فالأعداء لا يريدون أكثر من سكوتنا وصمتنا، وينشرون هم القتل والدمار والتنكيل. أيجوز أن نبقى على هذه الحالة وستبقى
أوطاننا مرويّة بدمائنا، وتبقى مناجلنا سيوف مكسورة، ويبقى الغرب يشتري ضمائرنا ليحوّل حقولنا إلى مزرعة أشواك وعوسج وعلّيق؟. نعم، لنحافظ على أرضنا، فنحن لا قيمة لنا دون وطن يحمينا وليس يأوينا، وكفى أن نعيش مذلّة الغربة بلفة همبركر وعلبة بيبسي. فضياعنا ضياع لحضارتنا وأرثنا وتراثنا، وانقراضنا الحتمي آتٍ إذا تساهلنا في هذه المسيرة واستسهلناها خلال السنين القادمة، وسننصهر في أجيال وكيانات دون أن ندري… فالموت بكرامة حياة شاهدة، راية تعلن حقيقة الوجود، والموت في أرض الآباء والأجداد لابدّ أن ينبعث من جديد، والانبعاث سيكون أخضراً مثمراً زاهراً إذا ما كانت إرادة البقاء مُلكنا وفي يدنا وفي عمق حسّنا الإيماني، والحياة في الغربة موت إلى الأبد.

ما علينا إلا بالصبر، شبيه أيوب، وحتى قبول الموت من أجل البقاء في أرضنا وأرض أجدادنا وآبائنا… وإنْ بقينا اليوم بقية باقية، فكما قلتُ سابقاً، ما نحن إلا شهود وشهداء، وما نحن إلا خميرة لا تَفسد. فالوطن لا يُشترى بالعيش الرغيد والنوم الهانئ وسعادة الرحيل، إنما بالشهادة في حمل الصليب والإيمان، بعيش المسيحية والثبات في أرضه، كي نخصّبه ونرويه ونسقيه، وتسكنه أجيالنا أمانةً منا إليهم، ووفاءً منا لآبائنا وأجدادنا والذين سبقونا وقبورهم شاهدة على عطائهم وبقائهم وعرقهم ودمائهم.

   الخاتمة : سأبقى أُنشدُ

كفانا أن نكون أرقاماً هزيلة وشواهد شاخصة، فأنا لستُ لاجئاً في بلدي، أنا مسيحي ابن هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بعرق جبيني وسواعدي، وحملتُها حباً في أعماق فؤادي، وزيّنتُها بدماء بريئة. لماذا الخوف؟… ألم يقل نبي الرجاء وخادم الله يوحنا بولس الثاني:”لا تخافوا ولا تستحوا أبداً عندما يجب أن تدافعوا عن حرياتكم وخاصة عن حرية القيم الإنجيلية التي تحيونها معاً”. ما نحتاجه إلى تعبئة روحية ونظرة جريئة وبعيدة المدى في معنى وجودنا، وإلا عبثاً نحتمي خلف أنظمة، ونتحصّن وراء ضمانات، ونتطلّع إلى حمايات وسياجات، وعبثاً نسعى إلى تثبيت وجودنا على أرض نظنّها ثابتة تحت أقدامنا إذا لم نسمع كلمة الرب في أن ننعش إيماننا، فالروح _ حسب اعتقادي _ قد ابتعد عن مسيرة دعوتنا، وصوت الرب يوقظنا قائلاً:”حتى متى أكون معكم يا قليلي الإيمان” (لو25:8). إننا أبناء الرجاء، فلماذا نخاف _ نعم نحن _ من الاضطهاد… فعيشنا في الشرق كوننا جذور المسيحية الأصيلة، ونعيش الصليب، وبعد الصليب قيامة، حيث سيتعرف كل الشرق إلى وجه يسوع المسيح، لذلك علينا أن نؤمن أننا الخميرة ولسنا أرقاماً أو نسبة، ونحن لسنا من اللاجئين بل أنا مسيحي من بلدتي وقريتي ومدينتي وحارتي ووطني… وهذه رايتي. فنحيا شهادتنا حسب قول الكتاب:”فما نحتاج إليه من حرية وشجاعة، شهادة منا لما نحن عليه من رجاء” (1بط15:3)

نحن عراقيون قبل أن نكون مسيحيين، وهذه هويتنا ونعتزّ بها، واعتزازنا بمسيحيتنا وببلادنا ما هو إلا حرص على أمنه واستقراره. وهذه رايتي، أحملها ليس نفاقاً ولا كبرياءً مزيفاً بل أحياها حباً ووفاءً وعطاءً لأصولي وأصالتي، وستبقى الحقيقة شاهدة مهما تجبَّر كبار الدنيا ورجال الزمن، وجعلوا لهم آلهة من دنياهم وأزمنتهم… نعم سأبقى أُنشد “هذه أرضي… هنا وطني… هذا إيماني… هنا شهادتي..”.إنها انشودتي حتى مماتي فلا نخف فالرب معنا حتى النهاية .. نعم وآمين

Share this Entry

المونسينيور بيوس قاشا

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير