الشباب والعولمة الثقافية

الشباب وتحديّات العولمة.. من يحرّك من؟ (3)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

لنتكلم قليلا عن (الهويّة) ونربطها بعد ذلك بـ (هويّة الشباب). مسألة الهويّة اليوم ، هي مسألة مهمّة جدّا ومعقّدة ، تلمسُ جوانب عديدة في حياتنا إن كانت، بيولوجيّة، نفسانيّة، علائقيّة، دينيّة، ثقافيّة، اجتماعيّة، سياسيّة، واقتصاديّة . فالمسألة ليست ترفا فكريّا فقط ، علينا تحديد الهويّة كما نفعل في الصورة في الكومبيوتر ، نعمل عليها تحديدات معينة من اليمين واليسار ، ومن أعلى وأسفل لكي تكون واضحة، أي نقُصّ الزائد لكي نكوّن عليها شيئا متكاملا ؛ لماذا..؟ لان هذه الصورة ، قد تتشوّه وتضيع ملامحها الاساسيّة البارزة والاصيلة ، فالهويّة لها تحديدات مهمّة جدّا وضروريّة. كذلك التصاقنا الزائد باللوحة أو بالصورة ، لا يرينا عظمة الفنّ ، والرسم ، وتناسق الألوان. علينا الابتعاد قليلا لمسافة معينة عن اللوحة ، كي نرى بوضوح أكثر ، وتتكامل الأبعاد عندنا ؛ فنستطيع القول ، من خلال هذا المثل ، أنّ التصاقنا الزائد بذاتنا ، وانكماشنا على أنانيّتنا ، يحجب الرؤية الحقيقيّة لهويتنا . نحتاج تعلم (الخروج من الذات – الترك) ، والقفز إلى المجهول ، وهذا بالنسبة للشابّ ليس بالأمر السهل طبعًا. إنه تدرّب .

أ‌)        مشاكل وأزمات هوية الشباب:

إنّ مشاكل وأزمات الشباب كثيرة جدّا ، ولا يمكن حصرها في هذه الدراسة المتواضعة البسيطة ، نحتاج إلى تحليل نفسيّ ، واجتماعي ، والدخول في معترك التربية ، والتركيبة الداخلية للأسرة . لكن ، لا نبقى هنا كمَن يريد محاولة تجنّب الموضوع ، فيجب أن يكون لدينا شعورًا بالهويّة، والمشاكل أو المشاعر النفسيّة التي تواجه الشباب والتي تولّد لديه الكبت ، والاستلابات ، والشعور بعدم القيمة ، أو تولّد عنده ميولا انعكاسيّة سلبيّة عنيفة قد تؤدّي به إلى ابتلاع حبوب قاتلة أو الانتحار هي:

1-   الشعور بالنقص ، وعدم الأهميّة من قبل الأسرة مثلا ، أو المحيط الذي يعيش فيه، أو من قبل مؤسّسة ما، فيعتبر نفسه هامشيّا ، ولا فائدة منه تذكر .

2-   الشعور بالذنب ، وهذا يأتي بسبب الشعور الأوّل نوعًا ما ، فيشعر الشاب بالذنب والتأنيب ؛ فهو إمّا يلقي السبب على نفسه ، أو يلقيه على الظروف ، أو يبحث عن “شمّاعة” يلقي عليها الذنب .

3-   الشعور بالتفاهة ، الهامشية ، عدم الجدوى ، الفراغ ، صحراء قاحلة يسير على رمالها المتطايرة من هنا وهناك، فلا يعرف من أين جاء ، ولا إلى أين يذهب .

4-   فيشعر بالحرمان المرضيّ ، وتتراكم عليه ، كالصاعقة ، الأفكار السلبيّة والجنونيّة، فتتوّلد لديه ردّة فعل فوريّة لحظويّة لعمل شي ما طائش طفوليّ ، فيَجني على ذاته . لكن ، هناك حالات أخرى من الشباب يواجهون هذه الأمور بصبر وتأنّي، ويجلسون ويخطّطون لعمل شيء مفيد ولا يحوّلون انفعالاتهم وردّة الفعل الناتج من الصدمة إلى ثورة بركان عنيفة ـ بل يلقونها إلى مسك القلم والورقة ، إمّا (الشخبطة ، أو الرسم أو الكتابة) ؛ فهنا فقط يستطيع الشاب من أن يكتشف بذرة الأمل في داخله .

5-   قد يقع الشاب في معتقدات مريضة ، وتصوّرات وهميّة بعيدة عن الواقع ، وهذه تحصل كثيرًا في حياة الشاب . قد يكون بسبب مشاهدته لأفلام خيال علميّ ، أو أفلام خرافيّة أسطورية، هذا الشاب يحتاج إلى ثقافة للتمييز بين الواقع والوهم.

إذن، الهويّة ليست قالب ثلج جامد ، هي حقيقة متداخلة في تركيبة كياننا ، فكياننا هو هويّتنا ، وهو ليس شريحة مقتطعة من تركيبة هذا العالم ، ولا شيئا مفصولا عن الواقع. الكيان الإنسانيّ متلاصق بهويّتنا، فأيّ تأثير يُصيب الهويّة ، يصيب الكيان الداخلي ويزعزعه . الهويّة ، هي تاريخنا الإنسانيّ من بدء الطفولة إلى مماتنا . وكلّ الصور الحياتيّة ، والأحداث اليوميّة ، والمواقف التي نلاقيها، وأحداث وكوارث العالم ؛ أثرت فينا ولا زالت تؤثر فينا، ولا زال الطفل فينا يعمل عمله في كثير من المرات. ومن المشاكل التي تصيب الشاب اليوم ، في هذا الزمن الحديث ، ونقدر أن نقول إنها تأثيرات العولمة الثقافية فينا :

1-   تصوّر مغلوط للحياة ، وكأنها رأس مال للاستثمار التجاريّ والاقتصاديّ فقط . وهنا ، سوف تختلط الأوهام والأفكار والتصوّرات العديدة الخاطئة على نظرة الشاب للحياة ، فالكثير يظنّون أنّ الحياة هي: أن أتعلّم ، وأحصل على شهادة، وأحصل على وظيفة معيّنة، وأتزوّج ، وأحصل على سيارة حديثة . . ماذا أحتاج بعدُ من الحياة  ” الحمد لله على كل شيء ” .. لكن ! .  أين الإبداع والتضامن مع الآخر، وأين مسؤوليّتنا تجاه الحياة ، والكون والبيئة ، ومعالجة الأزمات الاقتصاديّة ، وتدهور نظام المجتمع ، وما هي مسؤوليّتنا تجاه الفقراء في العالم؟

2-   التوفيقيّة (أو التطابق مع الآخر) : تكلمنا عنها في بداية هذا الموضوع ، لكن لا ضرر لو تذكّرنا شيئا منها. التوفيقية هي التبعيّة، للمادة أوّلا، ثم لشخص ما، (مثال نحلم أن نصبح مثله ونتوصّل اليه) إن كان فنّان، رسّام، شاعر، مطرب، ممثل، بطل عالم بالملاكمة مثلا… الخ . أي نعيش في تطابق مع الآخرين ، نعيش (مع ومثل) ، لا نعيش كما نحن نريد أن نعيش . نتسلّق هنا وهناك على أكتاف الغير ، وعلى أفكارهم ومفاهيمهم . وأيضا، إنّ التوفيقيّة هي ، محاولة التطابق مع عواطف ومشاعر الغير ، وهذا ما نراه اليوم عندما نحاول أن نعيش إرضاءً للناس، واذا لم نعشْ إرضاءً لهم ، سوف تنقلب الدنيا علينا ، ويفتح مسلسل الكلام الجارح الثقيل ، (وماذا سيقولون الناس عنك والشباب الذين من حواليك) . هنا تنعدم الحريّة، ونقصد بها هنا حريّة العيش كما نحن لا كما يريد الآخرو
ن، والتوفيقية هي عولمة مجتمع.

3-   وأيضا ، سوء هضم أفكار ودروس الماضي ، واستنتاج الجديد المبدع دائما . لا توجد لدى الشباب اليوم ، قابليّة التقشير والتصفية. يُقال أنّ هناك في دماغ الإنسان (فلتر) أو ما يسمّى (مصفي) داخلي للتصفية . يحتاج الشاب إلى تصفية وتحليل الأحداث والأقوال والمواقف والآراء التي يسمعها ويشاهدها ، والتي أمست خبزنا اليوميّ. سوء الهضم هذا يؤدي إلى الخمول ، والكسل ، والوقوع في الضياع ، والتيه في جهات العالم والكون .

4-   هناك مشكلة أخرى لدى الشباب ، وتؤثر فعليّا في مسيرتهم ألا وهي (اللامبالاة) ، لامبالاة تجاه الذات (غير متصالح مع ذاته) ، وتنعكس أيضا في لا مبالاة تجاه الغير، وعلى المجتمع. وأخيرًا تجاه الله .

5-   الكبت والاستلاب ، تتعرّض هويّة الشباب أيضا ، إلى محاولات لتغيير خارجيّة وهذا ما يسمّى (غسل الدماغ) بسبب البدع ، أو المعتقدات السحريّة ، أصدقاء السوء ، إنكار الهويّة، التشرذم والتقوقع والتعصّب، مخدّرات وتنويم مغناطيسيّ، جماعة ما تدّعي الاحتوائيّة والشموليّة ؛ وهنا إذابة الهويّة الشخصيّة (كما يحدث في الغرب) . فنكوّن مبدأ معينا نسير بموجبه.

إذن ، ما دور الثقافة هنا؟ .  الثقافة ليست كثرة معلومات ، ونظريّات ، دراسة أكاديميّة فقط . الثقافة (الإنسان المثقّف- الشاب المثقّف) ، هو هذا الشخص الذي له القابليّة على التمييز بين الشيء وضدّه.  له قابليّة تحليل وتبسيط الأمور دون تعصّب وتخشّب .  شباب اليوم يحتاجون إلى المرونة في الحياة ؛ فالشاب الشفاف المرن ، أفضل من مئة شاب مزاجيّ متقلقل ، متهوّر ، متزمّت في أفكاره .

الثقافة، أخلاقٌ وحياء، وطيبة، وتواضع، واسلوب حوار ، وأيضا (الشاب المثقّف) ، يقبل الانتقاد بنفس الطريقة والكميّة التي ينتقد هو بها الآخر . إذن ، الثقافة أسلوب عيش واقعيّ، قابليّة تطوير ذاتنا مع الواقع دون الوقوع في الذوبان والانصهار في ذوات الآخرين . يحتاج الشاب إلى النظر إلى الشيء ، أو إلى الموضوع أو الحادث الفلاني ، أو القصة من عدّة جهات، ومنظورات مختلفة ، وليس من ناحية واحدة مقفولة .

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير