بعض الكنائس (خصوصًا في إيطاليا، اسبانيا والبرتغال) تحتفل بعيد الصعود في الأحد التالي لنهار خميس الصعود، وذلك لكي تمكن المؤمنين المشاركة في قداس هذا العيد الذي يُعتبر قداسًا احتفاليًا. نود أن نقدم للمناسبة تأملاً آخر نضمه إلى التأملات التي نشرناها أمس وصباح اليوم، آملين أن تساعدكم للتأمل بشكل أعمق في هذا السر.
* * *
جسدُ المسيح ، مُجّد منذ اللحظة الآولى لقيامته ، كما تشهدُ بذلك الميزات الجديدة والفائقة الطبيعة التي يتمتّع بها جسده منذ الآن فصاعدًا وبغير إنقطاع . وترمزُ السحابة والسماء حيث سيجلسُ ، من الآن فصاعدًا ، عن يمين الله ، إلى دخول ناسوته دخولا نهائيّا في المجد الإلهيّ . وإنّه سيتراءى بطريقة ٍ جدّ إستثنائيّة ووحيدة لبولس ” كأنّما للسّقط ” ( 1 كو 15 : 8 ) ترائيًا أخيرًا يجعلُ منه رسولا.
الذي خرجَ من الآب ، يستطيع وحده ” العودة إلى الآب ” ( ولا علاقة لهذا الخروج والعودة ، بنظريّة التاريخ الدائريّ الذي يبدأ من نقطة ، ويعود إلى ذات النقطة كتاريخ ٍ دائريّ ) كما يقولُ الإنجيليّ يوحنا في 3 :13 ” لم يصعد أحدٌ إلى السماء ، إلاّ الذي نزلَ من السماء ، ابن البشر ” . فالإنسانيّة ، إذا تركت لقواها الطبيعيّة فقط ، لا تستطيعُ الدخول إلى ” بيت الآب ” ، إلى حياة الله وسعادته ، وأبديّته .
هل صعودُ المسيح ، هو غياب مؤلم بالنسبة للتلاميذ ؟!
يقول لوقا الإنجيليّ ، إنّ التلاميذ كانوا في فرح ٍ عظيم ، بعد إنفصال الربّ عنهم . من المؤكّد ، أنّ غياب الحبيب عنّا ، يفقدنا طعمَ الحياة والفرح .! لكن هنا ، وفي هذا الحدث ، نرى التلاميذ عكس ذلك ، كنّا نتوقّع أن يبقوا مضطربين وحزانى . فالعالم لم يتغيّر ، والمسيح ابتعد عنهم نهائيّا . لقد تلقّوا مهمّة تبدو غير قابلة للتحقيق وتتجاوزُ قدراتهم . كيف كان في إستطاعتهم مواجهة الناس في إسرائيل وفي العالم أجمع ، والقول ” إنّ يسوع هذا ، الذي فشل في الظاهر ، هو ، على العكس ، مخلّصنا جميعًا ! . فكلّ وداع ٍ يترك وراءه ألمًا . وإن كان يسوع قد فارقهم كشخص حيّ ، فكيف لا يُحزنهم فراقه لهم بصورة ٍ نهائيّة ؟ لكن ، مع ذلك ، نرى أنّهم رجعوا أورشليم ، وهم في فرح ٍ عظيم ، يباركون الله .
مع البابا بنديكتس السادس عشر ، يمكن الإستنتاج ، أنّ التلاميذ لم يشعروا بإنّهم متروكون ، ولم يفطنوا إلى أنّ يسوع قد غاب في سماء ٍ يتعذر عليهم بلوغها ، وأصبح بعيدًا عنهم ، لكنّهم كانوا متيقّنين من ” حضور جديد ليسوع ” . كانوا متأكّدين ( كما كان القائم من الموت قد قال لهم ، بحسب متّى ) من أنه الآن حاضرٌ بينهم بطريقة ٍ جديدة وفاعلة . كانوا يعرفون أنّ ” يمين الآب ” حيث رُفع ، تستدعي طريقة جديدة في حضوره ، وبإنّه الآن معهم بطريقة ٍ لا يمكنُ خسارتها، وهي الطريقة التي بها يقدر الله وحده أن يكون قريبًا منّا . إنّ الصعود ، ليس ذهابًا إلى منطقة نائية من الكون ، لكنّه القرب الدائم الذي اختبره التلاميذ بقوّة واستمدّوا منه فرحًا لا ينقطع .
تساعدنا خلاصة إنجيل لوقا ، الذي يتحدّث بإسهاب ٍ عن ” صعود ” المسيح ، في فهم أفضل لمطلع أعمال الرسل حيث يصوّر صعود يسوع بوضوح . يسبقُ ذهاب يسوع حوارٌ يسأل فيه التلاميذ – الذين لا يزالون أسرى أفكارهم القديمة – عمّا إذا كان قد حان قيام ممكلة اسرائيل . هذا التصوّر بإقامة مملكة داوديّة متجدّدة يقابله يسوع بوعد ٍ ومهمّة . أمّا الوعدُ ، فإنّه سيمتلئونَ من قوّة الروح القدس ، أمّا المَهمّة ، فإن يكونوا شهودًا له حتى أقاصي الأرض . يعلّمنا هنا يسوع ، والمسيحيّة بشكل عامّ ، أنّ مسألة الأوقات والأزمنة مرفوضة . وعلى التلاميذ ، وعلينا ككلّ ، ألاّ يتبحّروا في التاريخ ، وألاّ يتطلّعوا إلى المستقبل المجهول . فالمسيحيّة حضور : عطاءٌ ورسالة ، ونعمةُ القرب الداخليّ من الله .
حدثُ الصعود ، هو ، من خلال نظرة لاهوتيّة معمّقة ، يستحقّ الوقوف في محطّته قليلا : الحدث لا يعرضُ علينا صعود المسيح إلى السماء كرحلة ٍ إلى النجوم ، بل كــ ” دخول ” في سرّ الله . وفي هذا إشارةٌ إلى نظام ِ عظمة ٍ مختلف تمامًا ، إلى بُعد آخر من أبعاد الكيان . ويقولُ البابا بنديكتس السادس عشر في كتابه ( يسوع الناصريّ ج2 ) : ” المكان الذي ذهبَ إليه يسوع في الغمامة ، وهو الجلوس (أو القيام) عن يمين الله ، ماذا يعني هذا ؟ لا نستطيعُ هنا أن نُلمّح إلى فضاء ٍ كونيّ بعيد ، يقال إنّ الله ، على نحو ما ، قد أقام عرشه فيه ، وخصّ يسوع بمقعد على هذا العرش . فالله لا يُقيم في فضاء ٍ ، أو مكان في جوار فضاءات ٍ وأمكنة ٍ أخرى ، فالله هو الله ، إنه مصدر وأساس كلّ فضاء موجود ، لكنه ليس جزءًا منهُ . فعلاقة الله بالأمكنة ، علاقة ربّ وخالق . حضوره ليس مكانيّا ، بل بالضبط حضور إلهيّ ” الجلوس عن يمين الله ” يعني المشاركة في سيادة الله الخاصّة على كلّ فضاء ومكان . يصف بنديكتس السادس عشر ” رحلة المسيح ” برحلة ٍ فضائيّة ” للقلب ، من بُعد الإنطواء على الذات إلى البعد الجديد ، بُعد الحبّ الإلهيّ الذي يغمر الكون .
يُذكّر صعود المسيح ، بالقطب الآخر للوجود الإنسانيّ الذي يمتدّ إلى ما لا نهاية ، إلى أبعد من ذاته ، إلى فوق وإلى تحت . وإنّ هذا الوجود ، كونه قطبًَا مواجهًا للعزلة الأساسيّة ولعدم ِ محسوسيّة المحبة الرافضة ، يحملُ في طيّاته ، إمكان الإتصال بسائر الناس جميعًا . في إتصال بالمحبة الإلهيّة ، إلى حدّ استطاعته أن يجدَ ، نوعًا ما ، مكانه اللازم (مساحته الهندسيّة ) حتى في مؤانسة الله تعالى .
الواقع الذي هو ” السماء ” ، لا يصبح حقيقة ً إلاّ في
اللقاء الوديّ بين الله والإنسان . بإتصال كيان الإنسان بكيان الله ، تُحدّد السماء . فالسماء ، هي مستقبل الإنسان . التساؤل عن السماء ، التي استقبلت جسد المسيح ، ليس إنزلاقا لتخيّلات تقويّة ، بل إدراك بعمق أكثر لهذا الحاضر الخفيّ ، الذي يمنحنا الحياة الحقيقيّة ، والذي ندع بإستمرار الوقائع السطحيّة تحجبه عنّا وتنزعه منّا . فالسماء ، هي واقعٌ شخصيّ يبقى على الدوام متّسما بطابَع أصله التاريخيّ في السرّ الفصحيّ ، سرّ موت المسيح وقيامته . المسيحُ الممجّد ” لا يؤخَذ من العالم ” ، بل ” يرتفعُ فوق العالَم ” ؛ وبذلك هو مرتبطٌ بالعالم. السماءُ ( كما يقول اللاهوتيّ رومانو غواردينيّ ) هي باطنيّة قدس الله . وتتضمّن السماء مرحلتين تاريخيّتين : أوّلا ، ارتفاع الربّ الذي يرمزُ إلى الإتحاد الجديد بين الله والإنسان ، وبالتالي السماء ، ثمّ إكتمالُ جسد الربّ في ” ملء ” المسيح الكليّ ، الذي يكمّلها ويعطيها بُعدها الكونيّ الحقيقيّ .