أيها الأحباء
تحتفل الكنيسة اليوم بعيد العنصرة وهو يوم رجاء للكنيسة، فيه أُعطيَ المؤمنون الروح القدس. بذلك تحقق وعد المسيح بأنه لن يترك تلاميذه وحدهم، بل سيرسل لهم المعزي، ” متى جاء روح الحق أرشدكم إلى الحق كله” (يو16: 13). فكما حل الروح على التلاميذ وهم مجتمعون للصلاة، هكذا يحل علينا ليجعلنا كالتلاميذ شركاء في النعمة وخداما للنور والحياة البدية.
قال يسوع: ” أنا معكم إلى انقضاء الدهر”. إنه تأكيد واضح وإعلان صريح بأن نعمته تشدد رجاءنا. فيسوع القائم من بين الأموات يرافقنا كما رافق تلاميذه الأولين، يقوينا في معركة البشارة.
عبر ليترجية اليوم نريد أن نعيش هذا الحدث من جديد، فنعمة حلول الروح القدس قد ملأتنا كما ملأت عُلية أورشليم.
في هذا العيد اجتمعنا معكم في كنيسة مار الياس وفي دير مار الياس نصلي للمرحوم الأب اميل موسى الذي خدم في هذا الدير وفي أماكن أخرى في أبرشيتنا لمدة أربعين سنة فترك لنا إرثا كبيرا من محبته وإخلاصه.
إننا نسمع من وقتٍ إلى آخر شكاوى على الكهنة وأقاويل تطال سمعتهم، هؤلاء الكهنة، لو صحّت فيهم هذه الأقوال، لا يشكلون إلا نسبة قليلة تكاد تتلاشى أمام كهنة عظام وقديسين نعرفهم، عاشوا بيننا، عمّدوا أولادنا، رافقوا شبابنا، حضنوا مرضانا وحملوا همومنا. ويوماً بعد يوم اكتشفنا أمانتهم وحبهم النقي وعاشوا كهنوتهم حتى الرمق الأخير من حياتهم.
أبونا اميل موسى هو واحد منهم، واحد من هؤلاء الكهنة القديسين الذين فاح عطرُ طيبتهم ونقاوة سيرتهم. وكل من عرفه يحمل في ذاكرته صوراً جميلة عن الكاهن الأمين وعن كرامة وشرف وقيمة الكهنوت التي لا تقدّر ولا تقاس بثمن.
أبونا اميل قدم خلال حياته شهادة حية استوحاها من حبه لله ومن خدمته الكهنوتية النسكية.
عندما أنبئت بوفاة الأب اميل، شعرت، كما شعر كثيرين منكم، أننا أضعنا لؤلؤة لا تُقدر بثمن، لم نخسر فقط ابونا اميل الانسان إنما ايضاً خسرنا طريقته الفريدة في كشف الله لنا.
ببساطه كان يعبر عن كهنوته، بفقره وطيبته وتواضعه عاش أجمل ما في كهنوته، صوته الخافت المبحوح المتحول إلى صمت عميق، كان ينبئ عن حضور الله.
أشار يسوع الحبيب، مرارا في الإنجيل المقدس، إلى العلاقة الخاصة بينه وبين الكهنة وكرّس محبته لهم عندما سكب لهم قلبه المقدس في العشاء الأخير وعندما قدّم جسده ودمه لأحبائه وعندما صلّى للآب السماوي وطلب منه أن يحفظ الكهنة: “إحفظهم باسمك.. حتى يكونوا واجدا.. قدسهم في الحق لأن كلامكَ حقٌ.. أنا فيهم وأنتَ فيَّ .. فيعرفَ العالم أنكَ تُحُّهبُهم” (يوحنا 17).
هذه الوحدة مع المسيح هي التي قادت “أبونا” اميل طوال أيام كهنوته، لذلك من الصعب جداً أن نحدد شخصية الاب اميل خارج الكهنوت. وقارُه، لطفُه، تواضعه ومحبتُه للناس، وكأني به كان يعيش في عالم غريب عن عالمنا وبدون شك غريب عن عالم الطموح والرغبة والجشع والطمع.
الأربعون سنة التي قضاها يخدم هذه الأبرشية، متنقلاً بين رعية وأخرى، اعطتنا انطباعاً أن فضائله التي تمتعنا بمساكنتها طوال هذه المدة، كانت ثمرة انضباطه الرهباني وصلاته وطاعته وفقره.
إن خبرتي مع هذا الشخص، الذي اعتبره الجميع كاهنا عادياً وبسيطاً، غنيةٌ ولا توصف بكلمات فهو لم يلفت الانتباه إلى أعمال باهرة قام بها ولم يصنفه الناس أنه من كبار هذا العالم ولا من أصحاب المشاريع الكيرى، غير أنه كان من المتصوفين في مسلكه ومقدراً ومحبوباً من الجميع، تحدث إلى الناس وتعامل معهم، عبر حياته الكهنوتية ومثله الصالح، وهنا يمكنني أن اسرد لكم حوادث كثيرة عشتها معه كان فيها مثلاً لي ولغيري، لكني اترك للرب ان يكافئه عليها.
أهم الأشياء التي تركت اثراً عندي وعند كثيرين منكم هي أمانته للصلاة. فانتم تعرفون أن على الراهب أن يصلي صباحاً صلاة الفرض وعند المساء صلاة الغروب ومن ثم صلاة النوم، هذه الصلوات بالإضافة إلى القداس الالهي، هي التي تصنع هوية الكاهن وأبونا اميل صنع هويته بالصلاة.
أريد أن أنوّه أيضاً بأن هذا الكاهن كان أسمى من أن يتعلق بخيرات هذا العالم. كان يملك القليل ولم يكن يحتاج إلا للقليل، والقليل الذي كان يملكه لم يكن له إنما للمحتاجين الذين كان كريماً معهم. ابونا اميل عاش فقيراً ومات فقيراً.
زحلة اليوم تدمع عليك وتستميحُكَ عذراً لأنها لم تودعك كما كانت تريد، لم تتمكن من احتضانك كما حضنتَ اولادها ولم ترافقك الى مثواك الأخير كما رافقت كثيرين من أبنائها وبناتها. زحلة كانت تريد أن تزفك على طريقتها الى العريس الإلهي، زحلة الشبيبة، الأخويات، الجمعيات، العائلات، كبارها وصغارها تودعك اليوم بدموع وتهليل فلها صار عند الخالق شفيع جديد. زحلة تصلي لك وتسأل الله أن يمنحك شركة القديسين والسعادة المطلقة والوحدة الأبدية مع يسوع المسيح.
“ابونا” اميل، لقد جاهدت الجهاد الحسن، أتممت سعيك وكنت الشاهد الأمين، لذلك نحن على يقين بأنك تعيش إلى الابد في حضرة الله تتمتع بمعاينة القائم من بين الاموات وانت القائم معه.
باسمكم أيها الأحباء نعزي الرهبانية الباسيلية المخلصية بشخص رئيسها العام الأرشمندريت أنطوان ديب والآباء الرهبان المخلصيين ونصلي ليرسل الرب لها دعوات رهبانية جديدة.
المسيح قام!