وفي ظل الظروف والأحداث المؤلمة التي تتعرض لها المنطقة بشكل عام ومدينة غزة بشكل خاص هدفت الزيارة لبث روح الأمل حيث أصبح الألمُ السمة العامة لمن يعيشون هناك، ألمُ الزمان والمكان والإنسان، ألمُ الفقدان والخذلان وانتزاع الأمن والأمان ألمُ اللا-سلام وانتزاع السلام الداخلي والسلام العام ألمُ الخوف اليومي ومن يقدر أن يحيا مع الخوف؟!
جاءت الزيارة بعد إعلان الهدنة لبث روح التضامن وتأكيد المشاركة الوجدانية والعملية مع أهلنا في غزة، زيارة تجاوزت كل الحدود لتأكيد الوحدة والشركة والمحبة والشعور الإنساني، وقد انطلق الوفد الزائر بروح تلتهب ألماً مملوءة أملاً للاطمئنان على أهل المنطقة وزرع الطمأنينة في كنيستنا ومؤسساتها الروحية والتربوية وتعزيز روح الإيمان والثقة لدى المؤمنين، فالكنيسة والمدارس والمراكز الانسانية (كراهبات المحبة والكلمة المتجسدة ومدارس البطريركية وراهبات الوردية وكافة المؤسسات الروحية) هي صمام أمان وخاصة في الظروف القاهرة التي تعتري مدينة غزة. وجدير بالذكر أنه يوجد في غزة ٤٠٠ عائلة تتكون من ١٣٥٠ شخص منهم ٤٠ عائلة كاثوليكية عدد أفرادها ١٣٦ شخص، ومدارسنا (مدارس الجميع بدون استثناء) تحوي ١٥٠٠ طالباً وطالبة بينهم ١٨٠ مسيحياً.
وضمن ما ذكر من بيانات سابقة، أكدت الإحصائيات أننا مدارس إنسانية بالدرجة الاولى هدفها بناء الإنسان الصالح وتنشئة جيل ضمن رسالة تربوية إنسانية حدودها السماء لا تعرف التفرقة ولا التمييز وترعى الجميع كأبناء يعدون لمستقبل مجهول وإعدادهم مبني على أسس وأساليب تربوية ضمن رؤية ورسالة كشفية تمكنهم وترفع من سويتهم ليكونوا قادة بنائين ومنتجين. وعلى حد قول الأب ماريو كاهن الرعية: “نحن رسالة أمل بالرغم من الألم ولدينا الإيمان والشجاعة لنكون رسل المسيح في العالم”. إن هذا القول الرائع يؤكد أن كل ذرة ألم وكل قطرة دم هي إشارة لامعة تزهو بالأمل. كلمات تشير إلى أن لا مكان لليأس والإحباط والتراجع طالما نحن أبناء النور والنهار طالما نحن أبناء رسالة سماوية واضحة وطالما أن معلمنا واحد وهو مثال لتحمل الألم ومثال للحياة وغلبة الموت، بالشجاعة والإيمان والمحبة نسير قدماً متحدين ومتحديين الألم ومنتصرين عليه.
أسوة بالمعلم، السيد المسيح، طالما هناك غاية وهدف إنساني يخدم البشرية جمعاء ندركه نحن أبناء النور حيث يجهله أبناء الظلام سيبقى ألمنا مغموساً بأملنا، هذا لسان حال كل من يعيش في غزة الصمود.
وكما تعودنا دائماً أن نعمل ضمن الآخر فنحن لا نؤمن بالعزلة والتقوقع والفردية. لذلك نرى دوماً شركاءنا في العمل والنتاج والعطاء والنعمة كثيرين. فالكنيسة لا تدخر جهداً وتعمل على قدم وساق بمحبة تامة مقدمةً كل ما بوسعها لتحسين مستوى العيش للعائلات المتضررة وللمجتمع في غزة على العموم من حيث الملبس والمسكن والطعام والشراب والتدفئة وكل ما من شانه توفير المتطلبات الرئيسة للحياة اليومية للفرد والعائلة وكذلك البعثة البابوية وغيرها من المنظمات الإنسانية وغير الحكومية التي تعزز الإيمان بالأعمال فتراها تهرع وتسرع لتقديم العون والمساعدة وإغاثة المحتاجين وتقديم الخدمات الطبية والعلاجية. وخلال الزيارة قام الوفد بالمرور من بيت لاهيا وبيت حانون والشجاعية بجانب الدير حيث شهدنا بأُمِّ أعيننا الدمار الشامل، والتقينا مع أفراد من المجتمع المحلي ومع مختار المنطقة وخان يونس ورفح واطلعنا على الواقع المؤلم حيث تم تدمير ٨٠ مسجداً وأرانا ما أصاب الأديرة والمدارس من شظايا.
لكن وعلى الرغم من قساوة المشهد الذي شهده أهل المنطقة على نحو مباشر إلا أن روح التضامن والوحدة كانت في أوجها ذلك عندما فتحت مدارسنا أبوابها على مصراعيها وكذلك مدارس الكنيسة الأرثوذكسية واستقبلت ١٥٠٠ نازحٍ وقدمت لهم ما يلزم من الخدمات الطبية والرعاية النفسية والإنسانية والعلاج اللازم (ويُروى عن مطران الروم بأن إحدى السيدات وضعت وليدها في الدير) لقد كانت الأديرة مأوى المسلمين في شهر رمضان حيث تكفلت جمعية الكاريتاس بتزويدهم بوجبة الإفطار بعد نهار صوم طويل وشاق وتوحدت القلوب وأزيلت الحواجز وتأكدت وحدتنا عندما رفع إخوتنا المسلمين صلواتهم من الأديره والكنائس، وهنا نستذكرُ الآية في الكتاب المقدس: “المحبة قوية كالموت”. فالمحبة والروح المسيحية طغت على ألم الموت والدمار وكانت هي الملجأ الأكيد لإخوتنا وقت الحاجة.
ولدى حديثنا مع أسقف الروم الأرثوذكس في غزة أكد أن أساس التعامل مبني على أسس ثلاثة أولها إنساني ثانيها كتابي (الإنجيل) وثالها وطني. ففي الوقت الذي يَقتل فيه الإنسان في الوطن العربي أخاه الإنسان باسم الدين فقد محى روح الدين وارتكز لروح الشر، وأكد بأن الدين لم يكن يوماً أداة للقتل والتفرقة والفرقة. أما الدين فهو أداة خدمة وسلام وتسامح، ففي حين هم يَقتلون ويُقتَلون نحن نصلي معاً ونفرح معاً ونتألمَّ معاً ونأمل بغد أفضل معاً (مسلمين ومسيحين).
وما لفت نظري أثناء تجوّالنا في الشوارع هو الأطفال… أطفال هائمون على رؤوسهم بلا هدف يبحثون عن الماء في الوقت الذي يفترض فيه جلوسهم على مقاعد الدراسة في مدارسهم… لكن للأسف مدارسهم مدمرة. وهذا المشهد المؤلم يثير التساؤل التالي: من كان لديه الحق بحرمان هؤلاء الأطفال من الدراسة واللعب في ساحة المدرسة مع أبناء جيلهم؟… أطفال غزة في الشوارع يركبون الحمار لأن لا وسيلة أخرى للتنقل لديهم… لا ماء ولا كهرباء ولا ديزل ولا غيره
ا من متطلبات الحياة اليومية الاساسية… أين حقوق الطفل؟! أين حقوق الانسان؟!.
في ختام تأمُّلي معكم في خبرتي الأولى في غزة أودّ أن أقول بأن هذه الزيارة هي قصيرة بمادتها الزمنية لكنها تعطي دروساً حياتية لا تنسى. فمن ينظر إلى تراب غزة وأطفال غزه ونساء غزة ورجال غزة يدرك بأن كل بذرة ألم هي شجرة أمل بأعينهم وكل قطرة دم هي للحياة، فأهل غزة الصابرون الصامدون هم عنوان الحياة وهم مثال للإنجيل المقدس وهم صورة المسيح باحتمال الألم والمشتقات. هم نور العالم وملح الأرض، وهم شهودٌ صادقون وجنود إيمانٍ ووطن. وهذا ما قاله البابا في الحديث عنهم.
وأخيراً وليس آخراً أقول: هنا غزة. اسمكم سبقكم للعالم بمحبتكم وتحملكم وجهادكم. هو إنجيل ورسائله صمودكم هو راية ترفرف في تاريخ المسيحية، قدمتم حياتكم بصمت وضحيتم بالغالي والنفيس وبأرواحكم بأمل صامت لحياة أفضل فالآن أنتم رسل إيمان وآمل ورسل المحبة الكاملة، رسل الحياة التي لن يملؤها مع الألم إلا الأمل… ألم يحدوه الأمل نحو غد أفضل… فطوباكم