"من أرادَ أن يكونَ فيكم عظيماً، فليكن لكم خادماً"

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – بكركي، في 21 ايلول 2014

Share this Entry

1. يصحِّح الربّ يسوع مفهومَ السلطة وغايتَها في الكنيسة والمجتمع والدولة. إنّها تضحيةٌ بالذات وخدمةٌ وتفانٍ في سبيل الخير العام. هذه الممارسة للسلطة مطلوبة بالدرجة الأولى من المسيحيِّين الذين دُعوا بحكم المعمودية للسَّير على خطى المسيح ولاعتماد نهجه، كما ذكره ليعقوب ويوحنا، وهو نهجُ بذلِ الذات في الخدمة العامة، فسمّاه “شربَ كأس الألم والاصطباغَ بمعمودية الدَّم”. وشجبَ الربُّ، في الوقت عينه، كلَّ استبداد وتسلّط في ممارسة السلطة: “تعلمون أنّ الذين يُعتبرون رؤساءَ الأمم يسودونها، وعظماء الشعوب يتسلّطون عليهم. أمّا أنتم فليس الأمرُ بينكم هكذا. بل من أرادَ أن يكونَ فيكم عظيماً، فليكن لكم خادماً” (مر10: 43). وقدّم ذاته المثالَ والقدوةَ لكلِّ صاحب سلطة: “إبن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدم ويبذل نفسه فداءً عن كثيرين”(مر10: 45).

2. يسعدنا أن نحتفل معاً بهذه الليتورجيّا الإلهية. فنرحّب بكم جميعاً، ونُحيّي الوفد من الزوّار البولونيّين ومن بينهم عشرة كهنة وثمانية عشر مؤمناً ومؤمنة. وإذ نرحّب بهم، ندعو لهم بالخير وبنجاح الزيارة إلى لبنان. ونحيّي من خلالهم وطنهم العزيز بولندا، التي أعطت الكنيسة الجامعة البابا العظيم القديس يوحنا بولس الثاني. نصلّي لكي تبقى بولندا وطناً مسيحياً صامداً وشاهداً. كما نُحيِّي المشاركين في الندوة الدولية للتعليم المسيحي في الشَّرق الأوسط، التي عُقدت في جامعة الروح القدس – الكسليك من 18 إلى 20 الشهر الجاري، بدعوة من كلِّية العلوم الدينية والمشرقية في الجامعة، ومن الهيئة الكاثوليكية للتعليم المسيحي في الشَّرق الأوسط. وقد أُسعدتُ بافتتاحها، باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وبإلقاء كلمة توجيهية عن واجب التعليم المسيحي في المدارس والرعايا كمهمة أساسية بإرسال إلــهي: “إذهــبوا وتلـمــذوا جميعَ الأمم … وأعلنوا إنجيلي للخليقة كلّها”(متى 28: 20؛ مر16: 15). فإنّنا نحيِّي الأب زياد صقر عميد كلِّية العلوم الدينية والمشرقية، والأب كلود ندره رئيس الهيئة الكاثوليكية للتعليم المسيحي في الشَّرق الأوسط، والمطران ميشال أبرص رئيس اللجنة الأسقفية للتعليم المسيحي، كما أُحيِّي شاكراً المحاضرين في هذه الندوة من فرنسيّين وبلجيكيّين وسواهم في لبنان والشَّرق الأوسط، وكلّ المشاركين في الندوة في لبنان وسوريا والأردن والعراق والكويت والإمارات العربية المتّحدة وفلسطين ومصر والسودان وقبرص وعمّان وقطر.

3. إنّنا نشعر اليوم بمسؤولية هذا الإرسال لإعلان إنجيل يسوع المسيح في بلدان الشَّرق الأوسط، حيث تتعاظمُ تحدِّياتُ الحروب والنزاعاتِ والأحقاد والانقسامات والإرهاب والحركات التكفيرية الأصولية. فهذا الإنجيل هو في الحرب إنجيلُ السلام، وفي النزاعات والبغض إنجيلُ المصالحة والمحبة، وفي الظلم والاستبداد إنجيلُ العدالة وحقوق الإنسان، وفي الاعتداءات على الحياة البشرية وإذلالها وتحقيرها إنجيلُ قدسية الحياة وسيادة الله وحده عليها وكرامة الشخص البشري. إنَّ مؤتمر واشنطن، الذي شاركنا فيه مع إخواننا أصحاب الغبطة البطاركة ما بين 9 و 11 أيلول الجاري، يهدف إلى دعم الحضور المسيحي الفاعل. فبلدان الشَّرق الأوسط بأمسّ الحاجة إلى هذا الحضور من أجل نشر قيم الإنجيل، وتحرير شعوبها من لغة الحديد والنار والدمار.

لهذا نقول لكم أيّها الأحبّاء، معلّمي ومعلّمات التعليم المسيحي في المدارس والرعايا، الآتين من بلداننا المشرقية الاثنَي عشر: اليوم أكثرُ من أي يوم مضى، تحتاج بلدانُنا إلى “فرح الإنجيل”، إلى لغةِ المسيح والروح القدس التي تناقض لغةَ أمراء الحرب والإرهاب والظلم والقتل والدمار والتهجير. أجل، إنّها بحاجة إلى لغةِ المحبة والأخوّة والسلام.

إنّ الإنجيل موجَّهٌ لجميع الناس، للمؤمن وغير المؤمن، للملتزم وللفاتر، لأنّه تقاسُمٌ لفرح المسيح مع كلّ إنسان، وفتْحُ آفاق الرجاء أمام الجميع، ومدُّ مائدة المحبة لوليمةِ كلمة الحقّ تغذّي العقول والضمائر، ووليمةِ جسدِ المسيح ودمه تغذّي القلوب وتحيي النفوس.

4. إنّنا بالأسى الكبير والحزن بكَينا شهداءَ الجيش الثلاثة: الشهيد محمّد حميّة الذي أعدمته “جبهة النصرة” بالرصاص، والشهيدَين علي أحمد حمادي الخرّاط، ومحمّد عاصم ضاهر اللذَين سقطا بانفجار عبوة ناسفة إستهدفت دوريّتَهم العسكريّة عند أطراف بلدة عرسال. إنّنا نعزّي عائلاتهم والجيش اللبناني الذي نمحضه مع الحكومة والشعب كلَّ الثقة والدعم والتأييد، لكي يضع حدًّا لممارسات هذه الجماعات الإرهابيّة التكفيريّة اللاإنسانيّة، فينعم المواطنون بالأمن والاستقرار.

5. “من أراد أن يكون فيكم عظيماً، فليكن لكم خادماً” (مر10: 43). هذا هو النهجُ الجديد لممارسة السلطة. كشفه يسوع لتلاميذه، عندما طلب الأخوان يعقوب ويوحنا الجلوس عن يمينه ويساره في مجده الآتي.

فصحّح أوّلاً نظرة التلميذَين، مبيِّناً لهما أنّ طريقَ المجد يمرُّ بشرب كأس الألم وبالاصطباغ بدم الشهادة، على خطاه (مر10: 39)، فهو سيبلغ إلى مجده بآلامه وموته على الصليب من أجل فداء البشر. وبهذا مجّد الآب متمّماً إرادته الخلاصيَة، والآب مجّده بقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السماء.

طريقُ المجد هذا رسمه بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيليبي (2: 5-11): “أيّها الإخوة تخلّ
قوا بخلق المسيح الذي هو الله، لم يحسب ألوهيته مكسباً بل تجرّد من ذاته متّخذاً صورة العبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العلى ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء كيما تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة في السماوات وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ تمجيداً لله الآب”.

ثمّ صحّح نظرة التلاميذ العشرة الباقين، شارحاً معنى الجلوس عن يمينه ويساره، بأنّه مشاركة في سلطة محبّته وخدمته وتفانيه. وأكّد لهم أنّه سيقلّدهم سلطاناً يميّزهم عن غيرهم، ويمارسونه بطريقة مغايرة ومناقضة لممارسة أصحاب السلطة الزمنية. فرؤساء الأمم يمارسون سلطتهم بالتسلّط على الناس والتعالي عليهم، وبالسّعي إلى مصالحهم الخاصة ومكاسبهم. وغالباً ما تكون على حساب مصالح الناس والخير العام.

أمّا هم، فالعظيم بينهم يكون خادماً لهم، والأوّل عبداً للجميع. والكلّ على مثال يسوع، ابن الله الذي صار إنساناً، والذي “لم يأتِ ليُخدم، بل ليخدم، ويبذل نفسه فداءً عن الكثيرين” (راجع مر10: 42-45).

6. مأساتنا في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط التي تتآكلها الحروب والأزمات، هي أنّ دولاً من الشرق ومن الغرب ما زالت توقد نار الحرب بمدّ المتحاربين، ولا سيّما التنظيمات الإرهابية التكفيرية، بالمال والسلاح والدعم السياسي، وبإرسال مرتزقة واستخدامها لهذه الغاية؛ ومأساتُنا أنّ المسؤولين السياسيين ما زالوا يمارسون سلطة التسلّط والظلم والاستكبار والاستبداد. فيعاني المواطنون من القهر والفقر وحرمان حقوقهم، ويُهملون ويُتركون في بلية من الفلتان الأمني والخطف والقتل والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم، ويُشرَّدون مثل خرافٍ لا راعيَ لها.

ففي لبنان، أدّى التسلّط والاستكبار والانقسام السياسي والمذهبي والارتهان والتحجّر في الموقف والتعلّق بالمصالح الشخصية والفئوية، إلى مخالفة كبيرة للدستور، وهي عدمُ انتخاب رئيس للجمهورية منذ ستّة أشهر، وبالتالي إلى شلّ انتظام المؤسَّسات الدستورية. لعلَّ نوّاب الأمّة لا يُدركون أنَّ رئيس الجمهوريّة هو رئيس الدولة بأرضها وشعبها ومؤسّساتها السياسيّة والإداريّة والعسكريّة والقضائيّة. وبسبب هذه الشموليّة في دوره يصبح أيضًا رمزًا لوحدة الوطن. ألعلّهم لا يُريدون رئيسًا من أجل التمادي في نشر الفوضى والمخالفات وتغطية الفساد؟ فرئيس الجمهوريّة هو الذي، بحكم القسم الرئاسيّ، يسهر على احترام الدستور، ويحافظ على استقلال البلاد وسلامة أراضي الوطن، ويعزّز الوحدة الوطنيّة، وفقًا لأحكام الدستور. إنّ رئاسة الدولة تعطي رئيس الجمهورية رئاسة المؤسّستَين الأساسيّتَين، مجلس النواب ومجلس الوزراء، لجهة ضبط تناسق عملهما وعلاقاتهما، فهما جناحا الدولة. ما يعطي رئيسَ الجمهوريّة الدورَ الأساس في البلاد.

ولذلك نقول: لا أحد أكبر من الوطن والدولة، ولا أحد أهمّ من رئاسة الجمهورية، وأمامها وأمام مصلحة البلاد العليا تسقط كلّ الاعتبارات الشخصية والفئوية. إنّ صمت المواطنين لا يعني على الإطلاق تأييداً لهذه الممارسة السياسية الاستبداديّة الظالمة، بل أخطر من ذلك، فصمتهم يعني فقدان الثقة بممثّليهم، وهم على حقّ. فإنّنا نواصل الصوت في برّيّة اللامسؤوليّة والمصالح، وندعو لانتخاب رئيسٍ للبلاد أليوم قبل الغد.

7. لكنّنا ندعو أبناء الكنيسة وبناتها المخلصين وسائر مؤسساتها التربوية والاجتماعية والاستئنافية إلى الصمود في الخدمة والمساعدة وتضميد جراح المواطنين، وإلى مضاعفة التضحيات وبذل الجهود، وبخاصة إلى زرع بذور الرجاء في القلوب. وندعوهم للصلاة الفردية والجماعية لكي يمسّ الله ضمائر المسؤولين عندنا وفي العالم العربي والغربي، لكي يمارسوا سلطتهم بالتجرّد عن الذات وبالتضحية في سبيل الخير العام. وندعوهم للصلاة من أجل المتألِّمين والمقهورين لكي يعزّي اللهُ قلوبهم ويرسل إليهم مَنْ يحمل لهم محبته وعنايته ورحمته. ونصلّي جميعاً من أجل الاستقرار في لبنان والسلام في سوريا والعراق وفلسطين، ولترتفع من القلوب النقية أناشيدُ المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير