كلمة العولمة لا يتجاوز عمرها الــ (21 سنة) تقريبا 1989 . إخترعها الكاتب (مارك نوهان) . وتزامنت مع سقوط جدار برلين الذي يفصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية ، وكان هذا الجدار هو بناء الفاصل بين العالم الاشتراكي والعالم الرأسمالي، فنظام القطبيّة في العالم أصبح واحدًا . هذا هو السبب في إنتشار كبير في وسائل الاتصال في العالم، وفرض تقنيّات المعرفة الأفقيّة بواسطة شبكات الاتصال ؛ إن كانت سريعة جدّا لم يكن لأهل زماننا يحلمون بها أبدًا . لكن العولمة ليست فقط عولمة إعلاميّة، اتصاليّة ؛ بل وأيضا عولمة اقتصاديّة.
إن العولمة في اللغات الأوربيّة المختلفة ، هي سياسة أو سلوك على المستوى العالمي، وفي معنى آخر يقصد بها : السياسة الكونية . ويقال أيضا ” الكوكبة والكوننة ” ، وهي متقاربة مع مصطلح (التدويل) “أي كل ما هو أممي“. وهذه المصطلحات تصبّ في المفهوم الفكريّ الذي يضفي الطابع العالميّ ، أو الدولي ، أو الكوني على النشاط البشري، وتختلط الأمور بين (الأنسنة) من الانسانيّة وبين (العولمة) من العالميّة. لكنّ العولمة ، شئنا أم أبينا ، هي نموذج واحد كبير متفرّع إلى نماذج ثانوية متنوّعة ، غايتها تغيير وعمل إيثار في نفسيّة الفرد وفي عقله ، وفي تحفيز مشاعره ، وفوران إنفعالاته ، وإحداث صدمات وهزّات وصراعات خارجيّة وداخلية . هي الزيّ الموحّد الكوني الذي تريده لمصلحة من هم خلف الكواليس، العولمة أيضا، عولمة الجنس البشري، وخلق اضطراب في العمليّة الميكانيكيّة الداخليّة لماكنة الوجود البشري والعقل الإنساني، وإعطاء صورة جامدة للفرد وجعله كــ “مثل” وليس كــ”شخص – أنا” حقيقي. وما تيارات المودة ، وتقليعات الشباب ، وتسريحات الشعر المتنوّعة ، واللبس الغريب ، والاشياء التي توضع على الأنف أو الأذن ؛ سوى هذه التوفيقيّة التي نسعى من خلالها إلى التقليد والإمتثالية (تقليد مطربين أو فنانين، أو أبطال عالم في الملاكمة و.. الخ) . اصبحنا بفضل العولمة بشكل عام (لاننا لم نتطرق بعد إلى التقسيمات) كالنمل الذي يسير على نسق واحد وخطه واحدة من أجل غاية معينة، لكن كل حسب ما يفكر به. لكن قد يظن البعض أيضا أن العولمة فتحت باب الحرية للجميع، وأن مبدأ العولمة هي: أن نكون أحرارًا دائما، وأن نتكلّم ونفعل ما نشاء ، وما يحلو لنا، وأن نلبس ما نشاء ، ونصاحب من نريد . لكن ، أوليس هناك قانون معيّن ، أو نظام منهجيّ معيّن يتحاور ويتفاعل مع الحريّة ؛ في جلسة ما خارج نطاق العالم وفي غرفة الذات الداخلية .. يتفاهم (القانون) ، ويخطّط بأسلوب منهجيّ متوازن ، ويضع نُصب عينيه الحياء كموضوع للحريّة والعمل ..!
الحرية بالنسبة للعالم عامة ، وللشابّ خاصّة، هي: فعل حركيّ طائش، ناتج عن كبت داخلي وحرمانات كثيرة وفكر هامشيّ، فيؤول إلى التسيّب، حريّة مريضة، فيتحوّل الأنا الداخلي إلى “أنا” كئيب، مزاجيّ، صبيانيّ. النظام أو القانون المنهجيّ الذي للحريّة فينا هو: أن يكون هناك شيء في حياتنا (ممنوع) ، وأن نحترم ، قبل البدء بإطلاق حريتنا ، الآخرين لئلا نصيبهم بالأذى والتهميش والخدش . نخاف اليوم ، عندما نرى شابّا يرتدي ملابس غريبة جدّا ، وطريقة تسريحة شعره عجيبة ، ويعمل حركات غريبة كأنه مهرّج أو ما شابه، أن نقول له: لماذا تفعل هكذا، أو تلبس كذا ملابس فضفاضة، وتسريحتك هكذا… أن يتّهمنا بالتخلّف وعدم التطوّر الحديث …!
السؤال المهم الذي يُسأل للشباب اليوم: ما هو التطوّر الحديث المعاصر بالنسبة لكم؟ هل هو في تغيير التركيبة الظاهريّة للجسد، أم في تغيير العقليّة والفكر وإشباع الروح بالحبّ والرحمة والسلام وفعل الخير ، وتفعيلُ دور العقل والفكر في عمل أشياء مهمّة مبدعة في حياتنا وحياة المجتمع ؛ كأنْ ندرس ظاهرة معيّنة ، أو موقف معيّن ، أو حدث ما شاهدناه ، أو في عمل مشاريع كنّا نحلم بها . ولكن ، هنا مشكلة أكبر تواجه الشباب، وهي إذا حلم وعمل مشاريع كثيرة أو كان بوده ان يعمل هكذا مشاريع سيصطدم بجدار الأزمة المالية، لأنه قد يكون ليس لديه السيولة والميزانية الكافية لعمل شيء..! وهذه مشكلة مهمّة تواجه جيل اليوم والغد.
بالمختصر نقول، نحتاج إلى تطوير الذات, فوَباءُ العالم هو في قلّة الحياء، نعم . كيف نتخلّص من عقليّة العالم المُعولم كبودقة مغلقة علينا ، ونحن نتصارع ونتقاتل بأسلوب همجيّ مريض ؟ . لن يشفى عالمنا إلاّ بالجرأة والشفافيّة، ونبذ العنف ؛ فنتجنّب الإنفعال ، لان العالم أصبح (قرية صغيرة) ، ولم يعد لصراع الطبقات والهويّات من معنى، إنما الكلّ يسعى إلى الشفاء من الأوهام ، فإنقاذ العالم سيتمّ من خطرين: واحد يشجّع خصوصيّة الفرد إلى حد تأليهه ، وآخر يؤله الجماعة أو شخص ما يحبه، كلاهما على خطأ مبين.