مطرانية الملكيين الكاثوليك
زحلة- لبنان
كلمة سيادة المطران عصام يوحنا درويش المخلصي،
رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع، لبنان، للروم الملكيين الكاثوليك
ألقاها في قمة السلامللتحالفالدوليللأديان
17-19 سبتمبر 2014- سيول، جمهورية كوريا
طوبى لصانعي السّلام،
فانهم ابناء الله يدعون
سيّدي الرئيس،
سيداتي سادتي،
إنّه لشرفُ كبير مخاطبتكم اليوم في قمة السلام للتحالف الدولي للأديان للعام 2014. ونشكركم على حسن ضيافتكم لنا وعلى جهودكم المبذولة لتحقيق السلام والعدالة في عالمٍ مضطربٍ كهذا.
أحمل معي أصدق التحيات وأطيب التمنيات من شعوب الشرق الأوسط إلى شعب كوريا الجنوبية العظيم الذي أحيّيه بدوري. مقدراً تصميمكم وإصراركم على أن تصبحوا دولة متطوّرة إلى جانب مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
فبمجرّد إلقاء نظرة حول العالم، لا نرى سوى أزمة تلو الأخرى. فالعدوان مستشرٍ في أوكرانيا والتطرف والفوضى في شتّى بلدان الشرق الأوسط والعالم العربي، ناهيك عن الوباء القاتل والفقر المدقع في غرب أفريقيا وفي أجزاء أخرى من العالم، بالإضافة إلى تصاعد التوترات الإقليمية في بحري الصّين الشرقي والجنوبي وكذلك الإقتصاد العالمي الذي لا ينتج ما يكفي من النمو أو الازدهار المشترك.
جئتكم اليوم من لبنان، لبنان الجريح، الذي وصفه القديس يوحنا بولس الثاني قائلًا “لبنان هو أكثر من وطن، إنّه رسالة”. جئتكم اليوم من تلك المنطقة المجروحة حيث الصراعات قائمة بين الدول والأديان والطوائف، والجماعات العرقية! تلك المنطقة حيث يُذبح الناس فيها علنًا على وسائل الإعلام، والمرأة تُباع وتُغتصب والكنائس والمساجد تُدمّر. لقد شهدنا أفعالاً رهيبة لم نشهدها على مرّ أجيال عديدة. وللأسف، يتمّ تنفيذ تلك الأفعال الشريرة والمهينة باسم الله وبإسم الأديان.
الكنيسة هي مؤسسة تعمل على حل المشاكل. وإنّ التزامنا المتواصل لتجديد النظام العالمي والدفاع عنه سيحدد ما إذا قمنا ببناء مستقبل يعمّه السلام والعدالة والازدهار حيث يستطيع الناس أنى كانوا الحصول على فرص العيش الكريم التي يهبها الله لهم.
لقد بات من الواضح الآن أنّ ما يسمى بـ “الربيع العربي” في العالم العربي لم يقدّم شيئًا من الأمن والاستقرار والسلام والديمقراطية. بل على العكس، تواجه الدول العربية اليوم عدم اليقين وعدم الاستقرار، وموجات من التعصب و الركود الاقتصادي.
فالديمقراطية تأتي تباعًا عندما يرتقي المجتمع إلى مستوى معين من التنمية الاقتصادية والإصلاح الليبرالي إذ لا تتحقّق عن طريق الحرب والدمار.
يحتوي الشرق الأوسط على مزيج فريد من الخصائص الثقافية والتاريخية والدينية والاقتصادية. ففي الوقت الحاضر، يشكّل الشرق الأوسط ساحة للمتطرفين “الإسلاميين” الذين يعملون على تشويه صورة جميع البلدان وخلق عقيدة جديدة تقوم على الكراهية والقتل والنموذج الرجعي من الإستبداد أو الثيوقراطية.
لقد لعب المسيحيون عبر التاريخ دورًا هامًا في الشرق الأوسط. وكان الدور الإيجابي للمسيحيين واضحًا ومقدّرًا من قبل جميع الفئات ويعود بالفائدة على المجتمع من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في أوقات السلم وأوقات النزاع. كما عمل المسيحيون عبر التاريخ من أجل تعزيز حقوق المرأة، وحرية التعبير حرية اعتناق الدين.
وقد فرّ الآلاف من المسيحيين والعائلات المسلمة من ديارهم إلى بلدان أخرى أو نزحوا داخل بلدهم. وانتشروا بغالبيتهم في المدن والقرى، حيث استأجر البعض منزلا أو سكن خيمة أو بقي مع الأقارب. لقد كانوا يعيشون كلّ يومٍ بيومه؛ كانوا يعانون من الجوع والبرد، كانوا عرضة للأمراض المتفشية والأوبئة المعدية. لقد حُرم أطفالهم من المدارس أو الجامعات وأضحى النساء والرجال عاطلين عن العمل. ولم يبقَ بوسعهم سوى توسّل الحصول على القوت اليومي والتضرّع للربّ كي يحميهم من الأشرار.
إنّ الصراعات العنيفة في هذه المنطقة هي إقليمية بالطبيعة. تُعتبر المجموعات الإثنية المعقدة، والموقع الجغرافي، والتقارب الثقافي وغيرها من الشبكات الاجتماعية، قوية جدا عبر الحدود وتؤثر على حياة الناس بما في ذلك الترتيبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي، ينبغي إيجاد حل ناجع لدمج هذا الواقع الإقليمي التعددي بحيث يكون متكاملا بدلا من ان تسود نسيجه التوترات الدائمة.
وقد إستثمرت الكنيسة وطورت الخبرات في العديد من القطاعات، وعلى وجه الخصوص في نظم التعليم والصحة. لقد كانت وكالات الإغاثة الدولية كـعون الكنيسة (Church in Need) والوكالة الكاثوليكية للتنمية الخارجية (CAFOD) ووكالة التنمية للكنيسة الكاثوليكية الأيرلندية (TROCAIRE)و(MISEREOR) و(ROACO) وكاريتاس وغيرها… حاسمة في مساعدة الكنائس المحلية على المشاركة الكاملة ليس فقط للتصدي لحالات الطوارئ، بل أيضا لأسباب الصراعات الجذرية في المنطقة.
تشكّل الكنيسة محورًا للسلامة والمساعدات الإنسانية. فالكنيسة في الشرق الأوسط هي إحدى الركائز الأساسية التي تعتمد عليها العملية الديمقراطية وتستمرّ. كما تلعب الكنيسة حاليا دورًا هامًا في تعزيز المبادئ والقيم الديمقراطية من خلال برامج التربية المدنية.
كما
يبدو أن الممارسة الدينية تنطوي على إمكانيات كبيرة لحل المشاكل الاجتماعية السائدة حاليا، بما في ذلك الإجرام والعنف والتطرف والحروب.
تعمل الكنيسة الكاثوليكية من خلال تعاليمها وممارستها من أجل الحفاظ على تماسك العائلة وحمايتها واستقرارها وتوحدها وازدهارها، ما يساعد بشكل فعال في الحفاظ على سلامة الأمة بكاملها. نحن لا نبالغ في القول انه باعتراف الكنيسة بالفقر وممارسته، تُحقّق العدالة التي دعا إليها يسوع المسيح في موعظة الجبل.
تعتبر الكنيسة العائلة كخليّة أوّلية، فمن دون عائلة لا وجود للكنيسة… وتقوم الكنيسة التي تتألّف من مجموعة من المؤمنين الهادفين إلى خدمة البشرية بتحرير العائلة وتنشئتها وترسيخها. ويتعلم المسيحيون في فضاء الكنيسة المنفتح إظهار الحب للآخرين واحترامهم. وبالإضافة إلى ذلك، تعلّم الكنيسة روح الخدمة والضيافة والإنسانية.
وفي الواقع، يتواكب الطلب من الأديان ان تسهم في تحقيق العدالة والسلام للجميع جنباً إلى جنب مع فكرة المسؤولية تجاه الرّب أو الإنجيل. ويجدر باختبار المسؤولية هذا الارتكاز على تحقيق العدالة والسلام للجميع، بما أننا ولدنا جميعاً متساوين وأننا جميعاً بحاجة إلى العدالة والسلام بما فيه خيرنا وسلامتنا وسعادتنا.
ولا بدّ من اختبار إيماننا بالله وقيمنا التقليدية من خلال الإجابة عن أسئلة لا مفرّ منها: هل نخدم الناس جميعاً ونخدم حاجتهم إلى العدالة والسلام بغض النظر عن أصلهم وعرقهم ودينهم وجنسهم؟
كان قداسة البابا فرنسيس قد حثّ كافة الأطراف مرات عديدة على وقف الأعمال العسكرية وتشجيع الحوارات الإيجابية بغية التوصل إلى بناء حلّ سلمي للنزاعات كافة.
وأعتقد أن دورنا كمنظمة دينية ليس إيجاد الحلول بأنفسنا – بل العمل مع الآخرين، كهيئات دينية أخرى، وهيئات حكومية دولية وجمعيات غير حكومية علمانية، للمشاركة في إيجاد الحل. ونحن ملتزمون إلى أقصى حدّ بعملنا وصلواتنا.
لقد استجاب الرّب لصلوات المؤمنين. فقد كان الكثيرون جاثين يتلون الصلاة، ويتوسلون السلام في بلادنا الحبيبة. وكما دوّن القديس بولس في العهد الجديد: “فأسأل قبل كلِّ شيء أن يُقام الدعاءُ والصلاةُ والابتهالُ والحمدُ من أجل حميعِ الناس ومن أجل الحكام وسائرِ ذوي السلطة، لنحيا حياة سالمةً مُطمئنة بكل تقوى وكرامة”، (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 2/1).
وعلى الصعيد المحلي أيضاً، تمنح كنيستي الضحايا، وبخاصة النازحين والأشخاص الأكثر عرضةً للخطر، الراحة على الصعيد القانوني والنفسي والجسدي والروحي. وقد سعينا إلى إيجاد سبل لمساعدة المجمعات على تكريم الضحايا ، وتأمين الملاذ، والمشاركة في الصلاة والعمل من أجل تحقيق السلام، والتشجيع على الحقيقة والعدالة والمصالحات وفتح صفحة جديدة تليق بالعهد الجديد الذي نعمل على تكريس قيمه في مجتمعنا المعاصر.
” العدالة تولّد السلام؛ والعدالة تجلب الهدوء والأمان إلى أبد الآبدين”. (أشعياء 32:17).
السيد الرئيس،
السيدات والسادة،
يشرفني أن أقترح على حضراتكم بضعة اقتراحات وتوصيات عملية:
1. الاقتراح الأول:
المصادقة على وثيقة يتعهد فيها الممثلون عن كافة الأديان الذين يحضرون هذا المؤتمر بالعمل من أجل تحقيق السلام والانفتاح والاحترام المتبادل بين الأديان كافة.
2. الاقتراح الثاني:
التوجّه إلى رؤساء الدول للتوقف عن دعم كافة الأطراف المعنية بالأسلحة والمال وللعمل بجديّة لوضع حدّ لسفك الدماء ونزوح الأقليات، وبخاصة المسيحيين في كافة أنحاء العالم، وعلى وجه التحديد في الشرق الأوسط.
وفي النهاية، يسرّني أن أقترح عليكم التوصيات العملية التالية:
1- إنشاء لجنة دولية لبت روح التسامح والمصالحة،
2- تطوير مناهج مدرسية سلمية وتعليم التسامح والمصالحة في المدارس والمعاهد الدينية،
3- التشجيع على إدراج مسألتي السلام والمصالحة كموضوعين أساسيين في المواعظ التي تتلى في الكنائس وكافة دور العبادة.
4- تنظيم ورش العمل والندوات حول ضرورة تفهَم الفوارق الدينية وحول المصالحة لكافة فئات المجتمع.
5- إعداد لجان تُعنى بتقديم المشورة على كافة المستويات لمساعدة أولئك الذين افتقدوا إلى الإرشاد والنصح.
6- بث برامج مكثَفة عن السلام في كافة وسائل الإعلام.
وأخيراً، أودّ أن أشكر منظم هذه القمة الناجحة “جمعية الثقافة السماوية لاستعادة النور والسلام العالمي (HWPL)” على جهودها الجبارة وعلى حسن استضافتنا.
ليبارككم الرّب جميعاً، سلام الرب معكم.