الدور الفريد للبابا في الأراضي المقدسة
بقلم الأب توماس ويليامز
القدس، الخميس 14 مايو 2009 (Zenit.org) – في وقت مبكر من صباح البارحة، غادر البابا القدس متوجهاً إلى بيت لحم وسط مزيد من الانتقادات الموجهة له من قبل السكان المحليين. ولم يسعني سوى أن أشكر الله على منحنا هذا البابا الألماني الوديع. وأدركت حجم رسالته الفريدة من نوعها في هذه الأراضي التي مزقتها التجاذبات المستمرة حول كل شيء ابتداءً من الأرض ووصولاً إلى التفاصيل العقائدية.
والواقع أن الأب الأقدس لم يأت إلى الأراضي المقدسة لتأدية دور حزبي سياسي ولا حتى لصالح “حزبه”. إنه لم يأت فقط ممثلاً الكنيسة الكاثوليكية بل جاء ممثلاً كل شخص، ممثلاً البشرية نفسها.
إن بندكتس يتكلم باسم اليهود، مشيداً بإرثهم الديني ومدافعاً عن حقهم في الأمان والحكم الذاتي. إنه يتكلم باسم الفلسطينيين وحقهم في السيادة والحرية. يتكلم باسم المسلمين داعياً إياهم إلى أفضل تقاليدهم وقناعاتهم الدينية والعبادة الورعة لله الواحد. يتكلم باسم المسيحيين في وضعهم الصعب كأقلية صغيرة ومتألمة. إنه باختصار يتكلم باسم الجميع وللجميع.
هذه هي خصوصية صوت البابا ورسالته. على نحو مفارق، ووسط كل أشكال تحريف رسالة بندكتس السادس عشر والتذمر من عدم انحيازه إلى طرف معين، نرى عظمة وتميز وجوده هنا. لا يستطيع أي زعيم آخر في العالم أن يتكلم بالسلطة الأخلاقية عينها أو بالتجرد الحقيقي عينه. من هنا فإن رفضه الدخول في اللعبة السياسية هو الذي كثيراً ما يؤدي إلى رفض رسالته المهمة.
ومن يثير الضجة الكبيرة في هذه الأثناء حول الموضوع القائل بأن البابا لا يشعر بالندم حيال المحرقة، هو الحاخام يسرائيل مير لو، رئيس نصب ياد فاشيم. فالأخير ينتقد كلمة البابا قائلاً بأنها “مجردة من الشفقة والندم والألم حيال المأساة الفظيعة التي حصدت ستة ملايين قتيل. ولو حدث أن شاهدتم البث، لكنتم لاحظتم أن لو كان واقفاً عن يمين البابا وكانت تبدو عليه علامات الانزعاج.
ويتبين أن الحاخام لو ليس غريباً عن انتقاد البابوية. فهو لم يكل من ذم البابا بيوس الثاني عشر حتى ولو أن ذلك كان يعني تشويه الحقائق. وخلال إحياء الذكرى الستين لليل البلور في برلين سنة 1998 – 9 نوفمبر 1938، الحدث الذي أطلق الشرارة الأولى لحقبة الاضطهادات اليهودية في ألمانيا – دعي لو الذي كان آنذاك كبير حاخامات إسرائيل إلى تناول الكلمة. وخلال كلمته المتقدة، طرح السؤال المتسم بالإدانة “بيوس الثاني عشر، أين كنت؟ لم لم تحرك ساكناً خلال ليل البلور؟”. وفي اليوم التالي، نشرت صحيفتان إيطاليتان هذا العنوان إلى جانب العنوان الفرعي “صمت بيوس الثاني عشر المخزي”. مع العلم أن بيوس الثاني عشر لم يتم انتخابه حتى مارس 1939 أي بعد مرور أربعة أشهر على ليل البلور. مع ذلك، لم يسارع الحاخام لو إلى التعبير عن ندمه على الافتراء على البابا بيوس.
خلال رحلتي إلى إسرائيل، أتيحت لي فرصة إعادة قراءة السيرة الذاتية الصريحة لبندكتس السادس عشر “Milestones”. وتأثرت مرة أخرى بطفولته التي عانت بشدة من وصول هتلر إلى السلطة، وبتعرض العديد من الألمان الطيبين للتعذيب على أيدي النازيين. وإن كانت الانتقادات الموجهة لبندكتس صحيحة، فلا بد من اعتبار كل شخص كان يعيش في ألمانيا في الثلاثينيات والأربعينيات شخصاً مذنباً.
لحسن الحظ أن بعض الأصوات اليهودية المهمة في القدس بدأت تدعو إلى التوقف عن توجيه الانتقادات للبابا. وعلى سبيل المثال، قال نوا فراغ، رئيس مجموعة منظمات الناجين من المحرقة في إسرائيل، أن النقد الموجه للحبر الأعظم مبالغ فيه. وأضاف فراغ: “لقد جاء إلى هنا للتقريب بين الكنيسة واليهودية، ولا بد لنا من اعتبار زيارته زيارة إيجابية ومهمة”.
والبارحة، اتجهت الأنظار إلى بيت لحم التي هي مدينة داود ومكان ميلاد يسوع المسيح والتي تشكل جزءاً من الأراضي الفلسطينية. لدى وصوله إلى بيت لحم، بادر بندكتس السادس عشر إلى التعبير عن تضامنه القلبي مع الفلسطينيين المتألمين والتأكيد على موقف الكرسي الرسولي من حقهم في السيادة. وقال: “سيدي الرئيس، إن الكرسي الرسولي يدعم حق شعبكم في وطن فلسطيني سيد في أرض أجدادكم، وطن آمن في سلام مع جيرانه ضمن حدود معترف بها دولياً”.
من الناحية النظرية، يجب على هذا الكلام ألا يحدث أي خلاف لأن الموقف الرسمي لدولة إسرائيل يتوافق مع موقف الكرسي الرسولي. فإسرائيل تؤكد أيضاً على حق الفلسطينيين في وطن سيد إن تم التوصل عملياً إلى تسوية مماثلة من دون المساس بأمن إسرائيل. ولكن المشكلة قائمة بطبيعة الحال.
تحدثت هنا في الأراضي المقدسة مع أشخاص ذوي خلفيات وتجارب مختلفة. وكانت المعاناة القاسم المشترك بينهم. لقد أراد كل شخص أن يطلعني على الصعوبات وأعمال الظلم على الصعيد الشخصي أو التاريخي. أراد كل منهم سرد مأساة معينة. لم يتذكر أحد منهم أنه قام بعمل ظلم بل تذكروا جميعاً أنهم عانوا من هذه الأعمال. ولا يسعني سوى التساؤل عن حاجة فضيلة النسيان في أراض عانت الكثير من الآلام والمآسي، أراض لا يعتز أبناؤها إلا بالـ “تذكر”.
في بيت لحم، دعا البارحة بندكتس السادس عشر المسيحيين المصغين إليه إلى أن يكونوا “جسر حوار وتعاون بناء في بناء ثقافة سلام لاستبدال حالة الخوف والعدائية والخيبة”. هذا ما يناضل في سبيله – بوجوده، وكلماته، وعزمه الصبور على إعلان البشرى السارة بصورة دائمة “في الفرص المناسبة وغير المناسبة على السواء” (2 تيم 4
، 2).
***
الأب توماس ويليامز، العضو في جمعية جنود المسيح، واللاهوتي الأميركي المقيم في روما، يزود محطة “سي بي آس” الإخبارية بتعليقات حول زيارة بندكتس السادس عشر التاريخية إلى الأراضي المقدسة. كذلك يقدم لوكالة زينيت مجموعة الأخبار عن رحلته.