فويرباخ: تعويض البشرية عن ألوهتها المنفية: الإسقاط والدين

أسطورة التقدم الأفقي (4)

Share this Entry

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الخميس 3 أغسطس 2009 (Zenit.org). – القسم الأول من هذا التحليل موجود على هذا الرابط – هناك بعد آخر يميز نظرة فويرباخ الوجودية والفكرية للدين وهو اعتباره الخبرة الدينية كاعتراف بجوهر كياني (Cf. Ibid., 22): أنا إله نفسي (Ego mihi deus). كل ما ينسبه الإنسان إلى هالة الفائق الطبيعة، ليس إلا تمثيلاً خياليًا لما هو الإنسان بطبيعته. كل الاستعدادات الطيبة لا تأتي من العلاء بل من الأسفل، لا من القمة بل من عمق الطبيعة. تكريم الله يعتمد على تكريم الإنسان لذاته، وليس إلا تعبيرًا عنه. الكائن الإلهي الذي يظهر في الطبيعة ليس إلا الطبيعة عينها، فالكائن الإلهي ليس إلا انطباعًا عن ألوهة الطبيعة وتعبيرًا عنها (Cf. Ibid., 28).

في تفسيره لظاهرة “نشأة الآلهة” (teogonia) يستعين فويرباخ بمفهوم “الانسلاب” (alienazione) الهيغيلي. ولكن بينما يطبق هيغيل هذا المفهوم على الروح المطلق، ينقله فويرباخ من إطار الفكرة إلى إطار الواقع، إلى إطار الإنسان بلحمه وعظمه. الانسلاب بالنسبة لفويرباخ ينبع من كون الإنسان يحرم نفسه مما هو خاصته لكي يُسقطه على واقع وهمي. الإله الغني والمتسامي للإنسان البائس والفقير، ما هو بالواقع إلا الإنسان بالذات. يقرّ الإنسان في كيان الله بما ينفي في كيانه البشري، وبهذا الشكل يضحي الدين “مصاص دماء البشرية”، كائنًا “طفيليًا” يتغذى من جوهر البشرية، من جسدها ودمها.

نرى هنا وجهة نظر معاكسة للافخارستيا، فبدل الإله الذي يعطينا حياته من خلال جسده ودمه، بالنسبة لفويرباخ، هي الألوهة التي تتغذى من جسد ودم البشرية، والإنسان يكسر جسده وروحه ويسفك دمه لحياة الآلهة: نحن بصدد ملء الوهم والانسلاب بحسب فويرباخ!

ولكن من الأهمية بمكان أن نلاحظ كيف أنه بالنسبة لفويرباخ هذا الانسلاب كان ضروريًا ولا بد منه، لأنه يشكل بحسب الجدلية الهيغيلية المرحلة الثانية من الجدلية، مرحلة النفي، الذي يعرف في النظام الهيغيلي بـ “النقيضة” (antitesi)، التي هي السبيل الضروري للوصول إلى “التأليف” (sintesi).

عمليًا، بعد الانسلاب، الذي سمح للإنسان بأن ينظر وجهًا لوجه إلى عظمته، يجب على الإنسان أن يمسك بقبضته بخيوط وجوده، وألا يترك هذه العظمة خارج ذاته بل أن يتبناها في كيانه بالذات، وأن يعتبر ببساطة بألوهة بشريته، تمامًا كما اعترف سابقًا بالإله الذي تخيله خارج ذاته. يلخص فويرباخ بالذات هذه العملية الجدلية بالقول: “كان الله فكرتي الأولى، العقل فكرتي الثانية، والإنسان فكرتي الثالثة والأخيرة” (Feuerbach, Pensées diverses, citato in H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, 27).

الإنسان ليس إلا مجموعة الصفات التي تشكل عظمة الإنسان. والإله المسيحي يشكل كمال هذا المفهوم، ولهذا لم يختبر الإنسان الإنسلاب بقدر ما اختبره في المسيحية، فهذه الأخيرة هي أسوأ الأديان لأنها أسماها وأعظمها (H. De Lubac, op. cit., 27). سر الله ليس إلا سر الإنسان الذي يضحي موضوعيًا ويسمح للإنسان أن يتبناه وأن يصل إلى “التأليف” في ذاته ومن أجل ذاته (sintesi in sé e per sé)، بعد أن اغتنى من مثلث الجدلية الذي جعله يخرج من الدين الطبيعي الحلولي (panteista)، ليمر بمرحلة الدين الذي يؤمن بأله شخصاني، فيصل أخيرًا إلى الأنسية حيث لا إله إلا الإنسان، أو بكلمات فويرباخ “الإنسان هو إله الإنسان” (Homo homini Deus) (L. Feuerbach, L’essenza del cristianesimo, Milano 1971, 27).

خلاصة

إذا ما نظرنا إلى نظام فويرباخ، لا يمكننا إلا أن نُعجب بحبه لتحرير الإنسان ولتحقيق كيانه بالكامل. فهو يقدم المسودة الأولى لما نود أن نسميه “أقصوصة التقدم الكبرى”. ويلخص الكاردينال دو لوباك بشكل جيد نية فويرباخ الذي يقول أن “لكي لا نضحي بالحب لأجل الله، لا بد أن نضحي بالله لأجل الحب” (H. De Lubac, op. cit., 29; Cf. L. Feuerbach, L’essenza del cristianesimo, 73).

بالواقع، كما سبق ورأينا في نظرتنا في مقالة سابقة إلى العقل العملي الكانطي، وإلى اختزال الدين بالأخلاقيات السبينوزية، كذلك في فويرباخ نرى أن “المبدأ الذي يلخص حقيقة الدين هو مبدأ الفعل الملموس: إنها شريعة المحبة، التي تسلب الشخص من ذاته لترغمه على إيجاد الشركة مع أشقائه” (L. Feuerbach, L’essenza del cristianesimo, 35ss).

هذا العرض الموضوعي لنظرة فويرباخ أراد أن يكون نقلاً أمينًا للغضب العارم في قلب فويرباخ نحو دين وإله، بحسب نظرته، حرم الإنسان من ألوهته. وهذه النظرة، التي لا يقبل بها أي مؤمن تعمق في إيمانه، هي تعبير بليغ عن “سوء الفهم” الذي يتحدث عنه دو لوباك في تقديمه لمأساة الإلحاد المعاصر، حيث الإله الذي كان مصدر رجاء وعامل تحرير، بات مصدر يأس وملل وأضحى نيره العذب نيرًا ثقيلاً على كاهل بشرية انسلبت عن ألوهتها الحقة في ألوهة خيالية. هذا التشديد والإصرار يجعلنا نشعر بأن هجوم فويرباخ على الدين وعلى المسيحية بشكل خاص ليس من نتاج العقل بقدر ما هو من نتاج المصورة. نحن بصدد إلحاد العاطفة أكثر منه أمام إلحاد العقل.

ولكن الدرب ما زال طويلاً قبل التوصل إلى نتائج تحليلية وافية. فقبل جذب خيوط الخلاصة، ما زال يترتب علينا استعراض فكر كارل ماركس وفريدريخ نيتشه.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير