* * *
“تعودنا في مثل هذه الايام ان نصدر نداء نعرض فيه الوضع السائد لننبه الى ما نراه انحرافا قد يؤدي الى ما لا تحمد عقباه، والوضع هذه السنة على رغم ما نرى فيه من بعض الانفراج لا يزال مدعاة قلق كبير، وهذا ما نريد ان نعرض له، في هذا النداء التاسع، سائلين الله ان يجنبنا سوء المصير.
اولا: الاستحقاقات
نحمد الله على ان المجلس النيابي تمكن من انتخاب رئيس للجمهورية، بعد ما يقارب الستة اشهر من انتظار واخذت تعود الحياة الطبيعية الى المؤسسات الدستورية فتألفت حكومة وفاق وطني جديدة، تم تعيين قائد جديد للجيش، وكانت الدعوة الى حوار وطني شامل برعاية فخامة رئيس الجمهورية.
يبقى ان تتم التعيينات في المراكز الحكومية والادارية الشاغرة في أسرع ما يمكن. وقد مضى زمن طويل والامر بين اخذ ورد وتجاذبات لا نهاية لها، بينما هناك معايير يجب التقيد بها، وبالتالي اعطاء كل ذي حق حقه، فتسند هذه المراكز الى من يتميزون بالكفاءة والنزاهة والخبرة الناتجة من تمرسهم الطويل بالشأن العام.
وانا اذ نقدر الجهود التي يبذلها فخامة رئيس الجمهورية واعضاء الحكومة والمجلس النيابي في سبيل اعادة البلد الى وضع طبيعي. نأمل ان يصدر قانون الانتخاب في اسرع وقت، وان يكون عادلا ومنصفا وان تجرى هذه الانتخابات في جو مؤات، بعيدا عن اضطرابات ومشاكل، وان يتاح للشعب اللبناني اختيار من يشاء للنيابة بمعزل عن اية ضغوط واغراءات.
ثانيا: اسباب تدعو الى القلق
1 – اضطراب حبل الأمن
ان الاحداث التي اندلعت في بيروت وفي طرابلس في ايار الفائت، لا تزال، بما تركت من ذيول، مثار قلق، كانت معارك نهر البارد السنة الماضية قد تسببت باستشهاد مائة وسبعين جنديا وضابطا كبيرا، وفي هذه السنة استشهد عشرة جنود وعدد من المواطنين في تفجير سيارة في طرابلس، ناهيكم بالاحداث التي جرت، ولا تزال تجري، هنا وهناك في العاصمة والملحقات بين الحين والحين، فضلا عن الاخلال بالامن، في بعض المناطق، ولا سيما في منطقة البقاع، وحتى اليوم لا تزال حالة الامن مضطربة في اماكن عديدة. وبالامس ايضا، أقدم مسلحون على انزال طوافة للجيش باطلاق النار عليها وقتل قائدها الذي هو ضابط معروف.
وفي المدن الكبرى من لبنان خصوصا، تعيش فئات من المواطنين في حالة فقر مدقعة، والفقر تربة خصبة باندلاع الاضطرابات، وهذا ما عرفت الشيوعية، في ما مضى ان تستغله لتسيطر على الناس، وفي هذه المدن فئات من الناس متطرفة وغير منضبطة تنتظر من يستأجرها لاثارة البلبلة واشاعة الاضطرابات وهي تكتفي بالنزر القليل من المال والكثير من السلاح لتقوم بأي عمل يطلب منها، ولو منافيا للنظام والقوانين.
2 – انقسام في لبنان
يعاني اللبنانيون الانقسام الحاد القائم بين الجماعات السياسية، ولا سيما جماعة 14 آذار و 8 آذار، وكل منهما يسعى الى توطيد هيبته على مفاصل الدولة. انه من الملح، لخير البلاد ان تتآلفا لتوطيد هيبة هذه الدولة على جميع اللبنانيين، على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم، بعدما تألفت حكومة الوحدة الوطنية. ومن المؤسف ان لبنان ما زال يشهد بعضا من الكلام المحقر يتراشق به افراد من هذا او ذاك الفريق على المستوى الرسمي، ما جعل الخطاب السياسي ينحدر الى ما لا يشرف.
3 – تفكك الدولة
تعاني الدولة تفككا في مؤسساتها، ثمة احكام تصدر عن القضاء تنصف المواطنين او بعض الموظفين، لكن الادارة ترفض الانصياع لحكم القضاء، وهذا يدل على ان الدولة لا تقيم أي اعتبار للقضاء فكيف لها ان تطلب من المواطنين احترام احكامه، فهي تهدم بيديها ما بنته يداها والقول عن تعطيل المجالس والاجهزة الرقابية فيما تشكو الدولة الفساد وهدر المال العام.
4 – نحن على مفترق طرق
ان هذا الوضع الشاذ يرسم نقاط استفهام كثيرة، ويثير جما من الاسئلة لا بد من الاجابة عنها اما ان يكون لبنان دولة تعي مسؤولياتها وتقصد القيام بها عن سابق ارادة وتصميم، واما ان تتراخى فتتنازل عن صلاحياتها لغيرها، وتعتزل كل مسؤولية. وهذا الوضع المستغرب حمل الكثيرين من اللبنانيين على الهجرة وبخاصة الشباب من بينهم وهم ذوو كفاءة عالية، وشهادات جامعية,. وقد بحثوا عن عمل مجد في لبنان لم بجدوه وهذا ما حملهم على البحث عن عمل خارجا عنه في بلدان مجاورة وهناك امل يعودهم الى بلدهم لبنان ولكنهم اذا جرفتهم الهجرة الى بلدان بعيدة كالولايات المتحدة وكندا واستراليا فهيهات ان يرجعوا. واذا ما هم رجعوا فلا امل بعودة ابنائهم واحفادهم الى لبنان، والخسارة في هذه الحال كبيرة جدا.
ثالثا: توجهات مستقبلية
1 – التفاف اللبنانيين حول دولتهم
الدولة هي ام لجميع ابنائها فاذا كانت فقيرة يستحي ابناؤها بالانتساب اليها، وهذا ليس من شيم الكرام، واذا كانت غنية فاخروا بالانتساب اليها، وهذا انتقاص من قدرها بالذات، لان الانتساب في هذه الحالة ليس اليها، بقدر ما هو الى ما تملك من ثروة. فالأم تبقى أما في كل الحالات، غنية كانت ام فقيرة، وغناها الحقيقي حدبها على ابنائها، ومدهم بما لديها من عاطفة امومة، وهذه حال لبنان مع ابنائه على اختلاف اوضاعهم وحالاتهم، والوطن يقوى ويشد بقدر ما يمحضه ابناؤه ولاءهم، ويضحون في سبيل اعلاء شأنه ورفع رايته لتبقى عزيزة الجانب موفورة الكرامة. اما ان يعمد ابناء الوطن الى التنازع على خيوره واقتعاد مقاعد الصدارة والوجاهة فيه، دونما نظر الى مصلحته العامة فهذه جريمة لا تغتفر.
2 – الانتماء الى الوطن
الانتماء الى الوطن شرط من شروط المواطنية
الصحيحة، اما ان يعيش الانسان على ارض وطنه، ويعتاش من خيوره، وينعم بها ويخدم سواء من الاوطان، ويعمل على تحقيق مصالحه، على حساب مصالح وطنه، فهذه خيانة عظمى، وقديما قيل: “ملعون من يشرب من البئر ويرمي فيها حجرا”، والمواطن السليم هو من سعى الى التضحية في سبيل وطنه، ولو على حساب راحته، وثروته ومستقبله. والاقبال على الوطن في حال الرخاء، والادبار عنه في حال الشقاء ليس من المواطنية الصحيحة في شيء. والوطن له حق على المنتسبين اليه هو حق التضحية في سبيله ورص صفوف المواطنين حوله لانقاذه مما يتهدده من مخاطر ويتربص به من محن.
خلاصة القول
ان هذه اللوحة التي رسمناها عن الوضع الراهن، مع ما فيها من وقد لا تحمل على الطمأنينة ولكنها الحقيقة التي قد تجرح، غير انها تبقى الطريق القويم الى الشفاء. وأملنا كبير ان يفيق جميع اللبنانيين على الحقيقة، ويسارعوا الى مواجهتها بأعين مفتوحة، وقلوب واعية، وعقول مدركة، ويسارعوا الى اجراء مصالحة عامة تقضي على ما بينهم من حزازات وتجمع صفوفهم على محبة بلدهم لبنان، ولن يلقوا مثله بلدا يحنو عليهم ويقبل عثارهم ويفاخرهم. والعيش في لبنان، بالنسبة الى جميع اللبنانيين، هو افضل ما يتوق اليه لبناني، ولو جاب بلدان العالم كله وكل طلة على جباله الشامخة وسهوله الوادعة وبحره الدافىء، وكل نسمة من هوائه العليل، وقطرة من مائه السلسبيل تساوي، في نظر ابناء لبنان، كنوز الارض وخيرها. ليت اللبنانيين يعرفون قدر وطنهم ويتصرفون على هذه القاعدة ليعود لبنان الى سابق عهده من الطمأنينة والوفاق والازدهار والسلام”.