الفاتيكان، الخميس 18 سبتمبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي التأمل الذي تلاه البابا بندكتس السادس عشر بعد ظهر يوم الأحد الفائت، في ختام زياح القربان في لورد.
ربي يسوع، أنت هنا!
وأنتم يا إخوتي، وأخواتي، وأصدقائي،
أنتم معي هنا أمامه!
يا رب، لقد رضيت منذ ألفي سنة أن تعلق على صليب عار، لتحيا بعد ذلك وتبقى معنا إلى الأبد (…) نحن إخوتك وأخواتك!
وأنتم يا إخوتي، وأخواتي، وأصدقائي،
ترضون بأن يدرككم.
نحن نتأمله.
نعبده.
نحبه. ونسعى إلى محبته أكثر.
نتأمل هذا الذي منح جسده ودمه لتلامذته، خلال العشاء السري، من أجل أن يكون معهم “كل الأيام، إلى انتهاء الزمان” (متى 20،28).
نعبد هذا الذي هو في بدء وختام إيماننا. هذا الذي لولاه لما كنا موجودين هنا هذا المساء، الذي لولاه ما كنا لنكون أبداً، والذي لولاه ما كان أي شيء ليكون! هو الذي به “تكون كل شيء” (يوحنا 3،1)، هو الذي به خُلقنا إلى الأبد، هو الذي أعطانا جسده ودمه. إنه حاضر هنا، هذا المساء، أمام ناظرينا.
نحن نحب – ونسعى إلى أن نحب أكثر – هذا الحاضر أمامنا، أمام أعيننا، وربما تساؤلاتنا، وأمام محبتنا.
إن كنا نمشي – أو نلازم فراش الألم – في الفرح، أو إن كنا موجودين في قفر الروح، خذنا ربي في محبتك: في المحبة اللامتناهية، التي هي دوماً محبة الآب لابنه، محبة الابن لأبيه، محبة الآب والابن للروح، ومحبة الروح للآب والابن.
إن القربان المقدس المصمود أمام أعيننا يعبر عن هذه القدرة اللامتناهية للمحبة التي تم إظهارها على الصليب المجيد.
ويعبر لنا القربان المقدس عن الاتضاع العجيب لمن أفقر نفسه ليغنينا به، لمن رضي أن يخسر كل شيء ليربحنا أبوه. إن القربان المقدس هو السر الحي، الفعال للحضور الأبدي لمخلص الإنسان في كنيسته.
إخوتي، وأخواتي، وأصدقائي،
فلنقبل، ولتقبلوا أن تقدموا أنفسكم إلى من منحنا كل شيء، إلى من أتى ليس ليدين العالم، بل ليخلصه (راجع يوحنا 17،3)، اقبلوا أن تقروا بالوجود الفاعل في حياتكم لمن هو موجود هنا، أمام أعينكم. اقبلوا أن تقدموا له حياتكم!
منذ ألفي سنة، قبلت مريم، العذراء القديسة، مريم التي حبل بها بلا دنس، أن تعطي كل شيء، أن تقدم جسدها لاستقبال جسد الخالق. لقد أتى كل شيء من المسيح، حتى مريم، وقد أتى كل شيء من خلال مريم، حتى المسيح.
إن مريم، العذراء القديسة، حاضرة معنا هذا المساء، أمام جسد ابنها، بعد مئة وخمسين سنة على ظهورها على برناديت الصغيرة.
أيتها العذراء القديسة، ساعدينا في التأمل، ساعدينا في العبادة، ساعدينا في أن نحب أكثر من أحبنا كثيراً، من أجل أن نعيش معه إلى الأبد.
هناك جمع غفير من الشهود حاضر بشكل خفي حولنا، إلى جانب هذه المغارة المباركة وأمام هذه الكنيسة التي أرادتها العذراء مريم، جمع كل من تأمل، وكرم، وعبد الحضور الفعلي لمن بذل نفسه من أجلنا حتى آخر قطرة دم، جمع كل من قضى ساعات في عبادته في سر القربان المقدس على المذبح.
نحن لا نراهم هذا المساء، ولكننا نسمعهم يقولون لنا، لكل منا: “تعال، دع المعلم يطلبك! إنه هنا! وهو يطلبك! (راجع يوحنا 28،11)! هو يريد أن يأخذ حياتك ويوحدها مع حياته. دعه يأخذك. لا تنظر بعد الآن إلى جراحك، بل انظر إلى جراحه. لا تنظر بعد الآن إلى ما يزال يفرقك عنه وعن الآخرين، انظر إلى المسافة اللامتناهية التي أزالها بالتجسد، بالتسمر على الصليب الذي أعدوه له البشر، وبالموت بغية إظهاره المحبة لك. هو يأخذك بجراحه، ويخبئك فيها (…)، لا ترفض محبته أبداً!”
إن جمع الشهود الغفير الذي قبل محبته، هو جمع قديسي السماء الذين لا يتوقفون عن التشفع من أجلنا. لقد كانوا خطأة، وكانوا يعلمون بذلك، ولكنهم قبلوا ألا ينظروا إلى جراحهم، وألا ينظروا إلا إلى جراح ربهم، ليكتشفوا بها مجد الصليب، وانتصار الحياة على الموت. ويقول لنا القديس بيار جوليان إيمار كل شيء عندما يهتف: “إن سر القربان المقدس هو يسوع المسيح الماضي، الحاضر، والمستقبل” (عظات وتعاليم رعوية 1856، 4-1،2. من التأمل).
يسوع المسيح الماضي، هو في الحقيقة التاريخية لليلة العلية، حيث يعيدنا كل احتفال بالذبيحة المقدسة.
يسوع المسيح الحاضر لأنه يقول لنا: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي، وهذا هو دمي”. “هذا هو” في الحاضر، هنا الآن، كما في كل آن وأوان من تاريخ البشر. إنه الحضور الحقيقي، الحضور الذي يتخطى شفاهنا، وقلوبنا، وأفكارنا الحزينة. إنه الحضور المعطى لأعيننا، كما الآن، في هذا المساء، بقرب هذه المغارة حيث ظهرت مريم كالتي حبل بها بلا دنس.
إن سر القربان المقدس هو أيضاً يسوع المسيح المستقبل، يسوع المسيح الآتي. عندما نتأمل القربان المقدس، جسده الممجد المتجسد والقائم من بين الأموات، نتأمل ما سوف نتأمله في الأبدية، مكتشفين بذلك العالم بأكمله الذي يحمله خالقه في كل لحظة من تاريخه. في كل مرة نأكله، وفي كل مرة نتأمله، نعلنه حتى مجيئه. لذلك، نتناوله باحترام فائق.
والبعض منا لا يمكنهم، أو لا يمكنهم بعد أن يتناولوه في السر المقدس، ولكن يمكنهم أن يتأملوه بإيمان ومحبة، ويعبروا عن رغبتهم في القدرة على الاتحاد به. ويعتبر الله هذه الرغبة ذات قيمة كبيرة. فهؤلاء ينتظرون عودته باضطرام أكبر، وهم ينتظرون يسوع المسيح الآتي.
في اليوم التالي لمناولة برناديت الأولى، عندما سألتها إحدى صديقاتها: “بم فرحت أكثر: بمناولتك الأولى أو بالظهورات؟
” أجابتها برناديت: “هذان أمران يتوافقان، ولكن لا يمكن مقارنتهما – لقد فرحت بالاثنين معاً”. وقد قال الكاهن لأسقف تارب في موضوع مناولتها الأولى: “لقد كانت برناديت في خشوع تام، وفي انتباه لا يترك مجالاً لتمني شيء آخر… كانت تظهر ممتلئة من العمل المقدس الذي كانت تقوم به. وكل شيء ينمو فيها بطريقة مذهلة”.
مع بيار جوليان إيمار، ومع برناديت، نبتهل شهادة الكثير من القديسين والقديسات الذين أحبوا القربان المقدس حباً كبيراً. ويهتف نيكولا كاباسيلا قائلاً لنا في هذا المساء: “إذا سكن فينا المسيح، إلام نحن بحاجة؟ ماذا ينقصنا؟ إذا سكنا في المسيح، ماذا يمكننا أن نتمنى أكثر؟ فهو مضيفنا ومسكننا. وكم نحن فرحون بأن نكون له سكنى! وما أشد فرحنا في أن نكون سكنى لساكن مماثل!” (الحياة في يسوع المسيح).
لقد ولد الطوباوي شارل دو فوكو سنة 1858، أي في السنة نفسها التي تمت فيها ظهورات لورد. وليس بعيداً عن جسده الذي يبسه الموت، كانت توجد، كحبة القمح الموضوعة في الأرض، الهلالية التي تحتوي على القربان المقدس الذي كان الأخ شارل يقدم له العبادة كل يوم لساعات طويلة. ويفشي لنا الأب فوكو صلاة قلبه، صلاة موجهة لأبينا، التي يمكننا مع يسوع جعلها خاصتنا بكل حق أمام القربان المقدس:
“يا أبي، أنا أستودع روحي بين يديك”.
هذه هي الصلاة الأخيرة لمعلمنا، وحبيبنا… أيمكنها أن تصبح خاصتنا، وأن تكون ليس فقط صلاة لحظاتنا الأخيرة، لا بل صلاة جميع لحظاتنا:
يا أبي، أنا أستودع نفسي بين يديك؛ يا أبي، أنا أثق بك؛ يا أبي، أنا أسلم أمري لك؛ يا أبي، اجعل مني ما تريد؛ ومهما تجعل مني، أنا أشكرك وأحمدك على كل شيء، أنا مستعد لكل شيء، وأقبل بكل شيء؛ وأشكرك على كل شيء. يا إلهي، أنا لا أبغي شيئاً آخر سوى أن تعمل في إرادتك، وأن تعمل في جميع مخلوقاتك، وأبنائك، وفي جميع من يحبهم قلبك؛ إني أستودع روحي بين يديك، أمنحك إياها يا إلهي، مع كل المحبة في قلبي، لأنني أحبك، ولأنها حاجة محبة بالنسبة لي أن أمنحك ذاتي، وأستودع روحي بين يديك، بلا حدود، وبثقة لامتناهية، لأنك أبي” (تأمل حول الأناجيل المقدسة).
أيها الإخوة والأخوات الأحبة، حجاج يوم، وسكان هذه الوديان، أيها الإخوة الأساقفة، والكهنة، والشمامسة، والرهبان، والراهبات، أنتم الذين ترون جميعاً أمامكم الاتضاع اللامتناهي لابن الله، ومجد قيامته اللامتناهي، ابقوا في السكوت، وقدموا العبادة لربكم، معلمنا، وربنا يسوع المسيح. كونوا في السكوت، ثم تكلموا وقولوا للعالم: لا يمكننا أن نكتم ما نعرفه بعد الآن. اذهبوا وأخبروا العالم بأسره عن آيات الله، الحاضر في كل لحظة في حياتنا، وفي كل مكان على الأرض. فليباركنا الله، ويحفظنا، ويرشدنا إلى طريق الحياة الأبدية، هو الحياة، إلى دهر الداهرين، آمين.
نقلته من الفرنسية إلى العربية غرة معيط