كلمة سيادة المطران رولان ابو جوده
في مناسبة احياء الذكرى السنوية لشهداء المقاومة اللبنانية
جونيه، لبنان، الاثنين 22 سبتمبر 2008 (zenit.org). – ننشر في ما يلي الكلمة التي القاها المطران رولان ابو جوده، النائب البطريركي العام في لبنان، في مناسبة إحياء الذكرى السنوية لشهداء المقامومة اللبنانية
مقدمة
1- دعا الدكتور سمير جعجع والسيدة عقيلته، باسم القوات اللبنانية، الى المشاركة في القداس السنوي، الذي يُحتفل به، في مثل هذا الوقت من كل سنة، لراحة أنفس شهداء المقاومة اللبنانية، برعاية صاحب الغبطة والنيافة، الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، بطريرك انطاكية وسائر المشرق، الكلي الطوبى، فشرفني السيد البطريرك إذ كلّفني أن أحتفل بهذا القداس بالنيابة عنه وأن أنقل إلى أهالي الشهداء وإليكم جميعاً تعازيه الأبوية، فيما يرافقنا بالصلاة لراحة أنفسهم من مقرّه الشتوي في بكركي.
2- وتجدر الملاحظة ان عبارة «شهداء المقاومة اللبنانية» حلّت محل عبارة «شهداء القوات اللبنانية». فها نحن نلتقي في هذا العام للصلاة، مستحضرين أرواح جميع الذين استشهدوا ليحيا لبنان، سائلين الله أن يُسكنهم جنانَ رحمته، محاولين التعزّي عن الحزن بالرجاء، وعن الخوف بالأمانة التي تَبقى للأبد، مجتهدين لنبقى أبناءَ النُور، وظلالُ الموت تَحوطُ بنا، متشبّثين بأَرضنا المقدّسة، والعواصفُ تَضربها من كلّ اتّجاه.
أولاً: لبنان منذ القدم:
ونلتقي لنرنّم للغائبين، الذين سلكوا طريق الوفاءِ لهذه الأرض، فمنحوها حياتهم لتحيا، وحرسوا الأرزَ بتضحياتهم، واستقرّوا في أعالي الجبال أبطالاً تباركهم الشمس، وتَحنو على لبنانَ، أرضِ التّواصل بين الأُمم، وملتقى الثَّقافات. فمنذُ السّومريّين والمصريّين، والكلدان، والأَشوريّين والفرس، مروراً بعالم اليوم… كان لبنان وطنُنا «مستقراً لحضارته الخاصّة، وممرّاً للحضارات على تنوعها». وقد قرأنا في آشعيا كيف كانتِ المراكبُ الكثيرةُ تُصَعّدُ في قمم جبالِ لبنانَ لقطع «أَرفعَ أرزه وخيارِ سروه». وظلّ لبنان حلماً بالنِّسبة إلى أبنائه، أوّلاً، السَّاعين إلى الاستقرار، وبالنسبة إلى أَرض الرافدين ووادي النِّيل، للحاجة إلى الخشب، ثم كان منذُ بدءِ تاريخه، هدفاً للمُعتدين والأُمم الكثيرة، يُدمّرون أسواره، وَيَهدمونَ البروج، ويُعرّونَ الصّخور، كما جرى لمدينة صور.
ثانياً: لبنانُ الملجأ:
ونلتقي اليوم لنؤكّد أننا فهمنا واقعنا والمعاناة، وأَدركنا طبيعةَ هُويّتنا، ومدانا الجغرافيّ، وأَبعادَ تاريخنا، وقرَّرنا أن نبقى مرتبطين بتراث الأحبّاء الذين سبقونا على دروب الصّمود والتَّضحيات، وعلى طريق الحريّة وتحصين الكرامات. فلبنانُ، بالنّسبة إليهم، وإلينا، أكثرُ من أرض، وأكثرُ من وطن، وأَكثرُ من ممّر، وأَكثرُ من مُستقّر، إنَّهُ الملجأُ المقدّس، الذي يَحملُ كلَّ الأبعاد الروحيّة والإنسانيّة، على الرّغم من تشويه صورته على أيدي أَعدائه. وقد كان، دائماً، واحةَ الهاربين من ظلم، والحريصين على صداقة مع السَّماء، وكلُّنا نعلم كيف أنَّ الاضطّهادَ علَّمَ الموارنة تحويلَ الحجارةِ قمحاً، والمآسي أَناشيد، وكيفَ أنّهم تحوّلوا، في مراحلَ تاريخية كثيرةٍ إلى قرابينَ، في هذا الشّرق، لأنّهم يَعيشون المسيحَ، وصليبَ المسيح الذي انتصر على الموتِ بالقيامة، ويَعيشون مع مريمَ التي تجدُ في كنائسهم تكريماً أشبه بتكريمها في السماء، وهي البهيّةُ الحنون، مُستحِقَّةٌ كلَّ إكرام واحترام.
ثالثاً: طريقُ الشهادة:
ونلتقي هنا لنتذكّر معاً، أنَّ الضَّريبة التي كانت تدفعها أرضُنا لم تكن، وحسبُ، الذّهبَ والفضّةَ والقصديرَ والنُّحاس والخشبَ، وغيرَهُ، إذ كُتبَ علينا، من جُبيلَ إلى صورَ، ومنَ السَّاحل إلى الجبال، أن ندفعَ ضريبةَ الدّم. ففي الأَزمنة القديمة قاومنا الحصارَ بالاستشهاد، وفي الزّمان المملوكي عايشنا الشَّهادَة بالخازوق. وفي الزّمان العثماني قاومنا التَّجويعَ والتَّرويع والإذلال. هنالك أيضاً الذين ماتوا اختناقاً بالماء في حوقا، ومنذ ما يفوق الماية سنة الذين استشهدوا في دير القمر. ولكم خيّر من فتيان وفتيات، في معارك ضارية، بين الحياة مع الجحود والموت مع الثبات على الإيمان، فأثروا الموت وكانوا شهداء مرتيّن: شهداء الإيمان وشهداء الوطن. وفي هذا الزَّمان، كما في زمان نبوخذ نصّرَ الثَّاني (605-562 ق.م.)، الذي حاصر صور ثلاثَ عشرةَ سنةً، لا تزال الرّيِاحُ الإقليميّةُ والدوليّةُ تَهبُّ حول أرزه الشَّامخ، لتَنتَزِعَ منه خيراتِه والثرَّوات، ولتُخرجَ أَهلَهُ من ديارهم. هذه الضَّريبةُ لن نَدعها تَذهبُ هدراً، وسَنبقى على وفاءٍ للبنانَ ووجودِه الحيّ الفاعل في المنطقة والعالم.
رابعاً: تحصينُ الدّاخل:
ونلتقي أيضاً، لنجدّد ثقتنا بأنّ لبنانَ الذي يَتعرَّضُ لاختراقات الإرهاب، ولخضّاتٍ داخليّة، بين طوائفه والمكونّات، ولتراكم الأسلحة، ولِتَضارُبِ المشروعات السيّاسيّة والأَمنيّة على أَرضه… وعلى الرُّغمِ من ربطه بالنِّزاعاتِ الإقليميّة، ومن تعثّر تطبيق قرارات الأُمم المتحدة… فهو لا يملكُ طريقاً للخلاص سوى تعزيز مناعته الداخليّة بإزاء الإضطّرابات الإقليميَّة. وهو لا يُمك
نه أن ينتظرَ الأَزمنةَ التي تُنهي التطرُّفَ، والتآمرَ، وتَردُّ العدالةَ والسَّلام والنِّظام إلى المُحيط القريب، والفضاءِ الدَّولي البعيد. وقد بَرهنتِ الأحداث، منذ 1975، أَنّ المفاهيمَ الحديثةَ للأُمَّة والدَّولة والانسانِ والقيم، تَتعرَّضُ لهجمات تراجعيّة مُتخلّفة، لا يُمكنُ الاستسلامُ بإزائها، ولا بُدَّ من مقاومتها، كي نعطيَ لبنان فرصاً للبقاء، للتجدُّد، للنّهوض، للحياة.
خامساً: الرأي الواحد:
1- وإنّ من المفيد، يا أَبنائي الأحبّاء، فيما نُحيي ذكرى شهداء القوّاتِ اللبنانية، بل شهداء المقاومة اللبنانية، أن أدعوكم الى التأمّل في قول بولسَ الرسول: «فإنْ كانت تعزيةٌ في المسيح أَو راحةٌ بالمحبّة، أَو شراكةٌ في الرّوح أَو رأفةٌ ورحمةٌ، فأَتمّوا فرحي بأَن تكونوا على رَأيٍ واحدٍ، ومحبّةٍ واحدة، وعلى اتفاّقِ الأَنفسِ واتحّادِ الأَفكار… ولا يَنظرنّ أحدٌ إلى ما هو لنفسه بل فلينظرْ كلُّ واحدٍ إلى ما هو لغيره. إفعلوا كلَّ شيء، بغير تذمّر ولا جدالٍ لتكونوا أبناءَ الله، بين جيل معوَّجٍ ملتوٍ تُضيئون كالنيّرات في العالم، مُتمسّكين بكلمة الحياة».
2- كما بات علينا جميعاً، من جهة أخرى، أن نعرف ان اتحادنا في هذه البلاد، المسيحيين مع المسيحيين، والمسلمين مع المسلمين، والمسيحيين مع المسلمين، هو ما ينقذنا من ورطتنا وأن خشبة الخلاص عندنا هي هذه الشرعية التي يجب أن ندعمها ونساندها، فعلاً، لا قولاً وحسب، لتبقى رمزنا وهادينا الى السيادة واعادة الأمن والاستقرار والسلام الى بلادنا. فبوحدتنا نسلم، وبخلافنا نتحطم!
3- فحرام عليكم، أنتم رفاق الشهداء، أن لا تفيدوا مما تركه لكم شهداء القوات اللبنانية وشهداء المقاومة اللبنانية من إرث ثمين وقيم في الإستشهاد والبطولة. تذكَّروا دائماً، أيّها الأعزاء، القادةَ الذين استشهدوا أو الذين تحمّلوا أعباءَ السجوّن والغربة والاضطّهاد، فهم يُضيئونَ لَكُمْ الطّريقَ إلى الحياة الجديدة. عليكم أن تثمرّوا كل ذلك في سبيل الوطن والخير العام. وإلا ذهبت جهود من سبقكم سدىً.
4- وكما صدرتم بطاقة دعوتكم الى هذا القداس بعبارة «كنا اخوة في الشهادة فلنكن اخوة في الحياة»، كونوا اخوة بعضكم لبعض، واخوة للجميع. «ألا ما أطيب، ما أحلى أن يسكن الأخوة معاً!».
الخاتمة:
1- وفي الختام إليكم جميعاً، قادةً ورفاقاً، رجالاً ونساءً، أوجه نداءً، دعوة، صرخة، مناشدة... سموا ذلك ما شئتم! اني، من على مذبح شهيد الشهداء، ادعو الجميع الى مصالحة عامة، جامعة، شاملة، تبادرونها بملاقاة الآخرين: للمصالحة والمسامحة أو طلب المسامحة: الكبير هو الذي يسامح، وأكبر منه هو الذي يطلب المسامحة. البغض، الحقد، لا يسامح ولا يطلب المسامحة – هي المحبة التي تسامح وتطلب المسامحة.
2- «المحبة لا تحنق […] ولا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق. وهي تعذر كل شيء […] وتتحمل كل شيء». اخوتي، اخواتي، كل شيء قابل للسقوط، وحدها «المحبة لا تسقط أبداً» .
3- إخوتي، أخواتي: «العظيم حقاً من كانت محبته عظيمة»!ّ كونوا عظماء بمحبتكم العظيمة. آمين.