روما، الأربعاء 24 يونيو 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر يوم الجمعة الفائت خلال صلوات الغروب في عيد قلب يسوع الأقدس، بمناسبة افتتاح السنة الكهنوتية والذكرى المئة والخمسين لوفاة القديس جان ماري فياني، خوري آرس.
***
إخوتي وأخواتي الأعزاء،
في تسبحة البتول سوف ننشد بعد قليل: “استقبلنا الرب في قلبه – Susceptit nos Dominus in sinum et cor suum”. في العهد القديم، يذكر قلب الله 26 مرة، هذا القلب الذي يعتبر عضو مشيئته لأن الإنسان يدان بحسب قلب الله. بسبب الألم الذي يشعر به قلبه من جراء خطايا البشر، يقرر الله الطوفان إلا أنه يتأثر لاحقاً بالضعف البشري ويغفر. يأتي لاحقاً مقطع كبير في العهد القديم يتناول بطريقة واضحة موضوع قلب الله. هذا المقطع يرد في الفصل الحادي عشر من سفر النبي هوشع حيث تصف الآيات الأولى حجم المحبة التي تحدث بها الرب مع إسرائيل في فجر تاريخها: “إذ كان إسرائيل صبياً أحببته ومن مصر دعوت ابني” (الآية الأولى). وفي الحقيقة أن إسرائيل أجابت بلامبالاة وعقوق عن الاصطفاء الإلهي الذي لا يكل. فقال الرب: “قد دعوهم لكنهم أعرضوا عنهم” (الآية الثانية). مع ذلك، لا يتخلى أبداً عن إسرائيل ويتركها بين أيدي الأعداء، حسبما نقرأ في الآية الثامنة، فقد “انقلب في فؤادي واضطرمت مراحمي”، حسبما لاحظ خالق الكون.
إن قلب الله يضطرم بالرحمة! تدعونا الكنيسة اليوم في عيد قلب يسوع الأقدس إلى التأمل في هذا السر، سر قلب الله الذي يتأثر ويصب كل محبته على البشرية. محبة سرية تظهر لنا في نصوص العهد الجديد كعاطفة الله اللامحدودة تجاه البشر. إنه لا يستسلم أمام نكران الجميل وأمام رفض الشعب الذي اختاره، بل إنه على العكس يقوم برحمة لامتناهية بإرسال ابنه الوحيد إلى العالم لكيما يحقق فيه قدر المحبة المحطمة ولكيما يعيد كرامة الابن إلى البشر الذين أصبحوا عبيداً بسبب الخطيئة وذلك من خلال الانتصار على قوة الشر والموت. هذا الأمر يكلف ثمناً باهظاً لأن ابن الآب الوحيد يقدم نفسه قرباناً على الصليب : “إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم الآن أقصى المحبة” (يو 13، 1). يتجلى رمز هذه المحبة التي تتجاوز الموت في جنبه المطعون بالحربة. في هذا الصدد، يقول الشاهد العيان الرسول يوحنا: “وإنما طعنه أحد الجنود بحربة في جنبه، فخرج في الحال دم وماء” (يو 19، 34).
إخوتي وأخواتي الأعزاء، أشكركم لأنكم استجبتم لدعوتي وأتيتم بأعداد كبيرة إلى هذا الاحتفال الذي نستهل من خلاله السنة الكهنوتية. أحيي نيافة الكرادلة والأساقفة بخاصة الكاردينال المسؤول وأمين سر مجمع الإكليروس ومعاونيه وأسقف آرس. كما أحيي الكهنة والإكليريكيين من مختلف إكليريكيات روما ومعاهدها والرهبان والراهبات وجميع المؤمنين. وأوجه تحية خاصة إلى غبطة بطريرك أنطاكية للسريان إغناطيوس يوسف يونان الذي جاء إلى روما للقائي والتعبير علناً عن “الشركة الكنسية” التي منحته إياها.
إخوتي وأخواتي الأعزاء، دعونا نتوقف معاً للتأمل في قلب المصلوب المطعون. لقد سمعنا مجدداً خلال القراءة الوجيزة من رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس أن “الله، وهو غني في الرحمة، فبسبب محبته العظيمة التي أحبنا بها، وإذ كنا نحن أيضاً أمواتاً بالذنوب، أحياناً مع المسيح، […] أقامنا معه وأجلسنا معه في الأماكن السماوية في المسيح يسوع” (أف 2: 4، 6). إن إقامتنا في يسوع المسيح تعني جلوسنا في الأماكن السماوية. ففي قلب يسوع تتجلى نواة المسيحية. وفي المسيح أعطيت لنا كل الجدة الثورية للإنجيل أي المحبة التي تخلصنا وتقيمنا في الله الأزلي. ويكتب الإنجيلي يوحنا: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (3، 16). إذاً يدعو قلبه الإلهي قلبنا ويدعونا إلى التخلي عن أنفسنا وعن الثقة البشرية لوضع ثقتنا فيه وجعل أنفسنا هبة محبة على مثاله.
إن كانت دعوة يسوع إلى “الثبات في محبته” (15، 9) موجهة لكل معمد في عيد قلب يسوع الأقدس، يوم التقديس الكهنوتي، فإن هذه الدعوة موجهة بقوة أكبر لنا نحن الكهنة، بخاصة في هذا المساء، في بداية السنة الكهنوتية التي أردت إعلانها بمناسبة الذكرى المئة والخمسين لوفاة خوري آرس القديس. يخطر في بالي قول رائع ومؤثر مذكور في تعليم الكنيسة الكاثوليكية وهو: “إن الكهنوت هو محبة قلب يسوع” (رقم 1589). لم لا نذكر بانفعال بأن هبة خدمتنا الكهنوتية انبثقت من هذا القلب؟ كيف ننسى أننا نحن الكهنة مكرسون لخدمة كهنوت المؤمنين بتواضع وسلطة؟ إن رسالتنا هي رسالة أساسية للكنيسة وللعالم تتطلب أمانة تامة للمسيح ووحدة مستمرة معه. فهو يطلب منا أن نسعى دوماً إلى القداسة على مثال القديس جان ماري فياني. إخوتي الكهنة الأعزاء، في الرسالة التي وجهتها لكم بمناسبة هذه السنة اليوبيلية الخاصة، أردت أن أوضح بعض الجوانب المميزة في خدمتنا بالاستناد إلى قدوة وتعليم خوري آرس القديس، مثال جميع الكهنة وبخاصة الخوارنة والمحامي عنهم. فلتكن لكم رسالتي عوناً وتشجيعاً على جعل هذه السنة فرصة سانحة للنمو في الصداقة مع يسوع الذي يعتمد علينا نحن خدامه في نشر ملكوته وتوطيده، وفي نشر محبته وحقيقته. لذلك اختتمت رسالتي قائلاً: “على مثال خوري آرس القديس، دعوه يقيم في قلوبكم فتصبحوا أنتم أيضاً رسل رجاء ومصالحة وسلام في عالم اليوم!”
دعوا المسيح يقيم فيكم! هذا هو الهدف الذي كان يعمل من أجله الرسول بولس طيلة حياته، الرسول الذي تأملنا به خلال السنة البول
سية التي توشك على النهاية. وهذا هو هدف خدمة خوري آرس القديس الذي نبتهل إليه بخاصة خلال السنة الكهنوتية. فليكن ذلك هدفكم أنتم أيضاً. إن الدراسة والتنشئة الرعوية المتقنة والدائمة ضروريتان ومفيدتان في سبيل التحول إلى خدام في خدمة الإنجيل، إلا أن “علم المحبة” الذي لا نتعلمه سوى في “التقرب” من المسيح ضروري أكثر. ففي الواقع أنه هو الذي يدعونا إلى كسر خبز محبته لغفران الخطايا وهداية القطيع باسمه. لذلك يجب ألا نبتعد أبداً عن ينبوع المحبة المتدفق من قلبه المطعون على الصليب.
هكذا فقط نتمكن من الإسهام بفعالية في “تدبير الآب” السري الذي يقوم على “جعل المسيح قلب العالم!” إنه تدبير يتحقق في التاريخ كلما أصبح يسوع قلب القلوب البشرية ابتداءً من القلوب المدعوة إلى أن تكون الأقرب منه أي الكهنة. ومن شأن “الوعود الكهنوتية” التي قطعناها يوم سيامتنا والتي نجددها سنوياً يوم خميس الأسرار خلال القداس المسحي تذكرنا بهذا الالتزام الدائم. حتى عوزنا وضعفنا وعجزنا لا بد لهم من إرشادنا إلى قلب يسوع. فإن كان صحيحاً أن الخاطئين يجب أن يتأملوا به ويتعلموا منه “ألم الخطايا” الضروري الذي يرشدهم إلى الآب، فالأمر سيان للخدام القديسين. في هذا الصدد، كيف ننسى أن لا شيء يزيد أوجاع الكنيسة، جسد المسيح، أكثر من خطايا رعاتها بخاصة أولئك الذين يتحولون إلى “سارقي خراف” (يو 10، 1)، أو يعملون على تضليلها بعقائدهم الخاصة أو إيقاعها في شرك الخطيئة والموت؟ أيها الكهنة الأعزاء، إن الدعوة إلى الاهتداء واللجوء إلى الرحمة الإلهية موجهة لنا أيضاً. وهنا يجب أن نطلب من قلب يسوع بتواضع وبلا انقطاع أن يحفظنا من خطر إلحاق الأذى بالأشخاص الذين نعنى بحمايتهم.
منذ لحظات قليلة، كرمت ذخيرة خوري آرس القديس التي هي قلبه في كنيسة الخورس. هذا القلب الملتهب بالمحبة الإلهية الذي كان يتأثر بفكرة كرامة الكاهن ويخاطب المؤمنين بتعابير مؤثرة وسامية مؤكداً على أن “الكاهن هو كل شيء بعد الله!… هو نفسه لن يفهم إلا في السماوات!” (الرسالة بمناسبة السنة الكهنوتية، ص. 2). إخوتي الأعزاء، دعونا ننمي هذا الإحساس عينه، سواء لتأدية خدمتنا بسخاء وتفان أو للمحافظة في أرواحنا على “الخشية الفعلية من الله”: خشية حرمان الأرواح التي أوكلت إلينا من الخيرات من خلال إهمالنا أو أخطائنا، أو التمكن – لا سمح الله – من إيذائها. إن الكنيسة بحاجة إلى كهنة قديسين، خدام يساعدون المؤمنين على اختبار محبة الرب الرحيمة ويكونون شهوداً لها. في السجود القرباني الذي يلي الاحتفال بصلاة الغروب، سنسأل الرب أن يلهب قلب كل كاهن بهذه “المحبة الرعوية” القادرة على مطابقة شخصه بشخص يسوع الكاهن فيتمكن من التشبه به في تقديم ذاته بالكامل. فلنحصل على هذه النعمة بشفاعة العذراء مريم التي سنتأمل غداً في قلبها الطاهر بإيمان عميق. لقد كان خوري آرس ينمي لها تفانياً بنوياً حتى أنه قام سنة 1836 بتكريس رعيته لمريم “التي حبل بها بلا دنس”، وذلك قبل إعلان عقيدة الحبل بلا دنس. وحافظ على تجديد تقدمة الرعية إلى العذراء القديسة معلماً المؤمنين أنه “يكفي أن يتحدثوا إليها لتستجاب طلباتهم” وذلك لأنها “تتمنى رؤيتنا مسرورين”. فلترافقنا أمنا العذراء القديسة خلال السنة الكهنوتية التي نستهلها اليوم لكيما نكون مرشدين حكماء للمؤمنين الذين يوكلهم الرب إلى عنايتنا الرعوية. آمين!
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009