روما، الثلاثاء، 7 يوليو 2009 (Zenit.org). – كثر الكلام في الآونة الأخيرة على دور البطريرك المارونيّ، في الشّأن العامّ الوطنيّ والسّياسيّ في لبنان؛ حتّى غدا هذا الدّور عرضة لبعض التّحليلات والمناقشات النّقديّة التي ربّما انزلقت أحيانا إلى مستوى انتقادات عشوائيّة، تشكّك في حقّ البطريركيّة المارونيّة بالتزامها الشّأن العام وبأدائها الوطنيّ التّاريخيّ المعروف.

     وعليه، رأينا وجوب توضيح بعض الاستفهامات المطروحة في هذا الصّدد، من خلال العودة إلى بعض المصادر القانونيّة المارونيّة والشّرقيّة عموما، لتوضيح قانونيّة دور البطريرك في الشّؤون الزّمنيّة.

      تشتقّ عبارة "بطريرك" من الجذر اليونانيّ Patriarkis وهي مركّبة من Patria "عِرق" أو "بلد"، ومن Arkin أي "آمر". فيكون معنى كلمة بطريرك: "آمر البلد" (Cf. S. Sidarouss, Des Patriarcats: les patriarcats dans l’Empire Ottoman et spécialement en Egypte, A. Rousseau, Paris 1907. p. 2).

    ومن الثّابت تاريخيّا، أنّ قبل ظهور الإسلام، كان لكلّ ناحية من الشّرق المتوسطيّ، قوانينها المحلّيّة الخاصّة (Cf. O. Bucci, Le Province Orientali dell’Impero Romano: una introduzione storico-giuridica, Pontificia Universitas Lateranensis, Roma 1998, p. 242). ثمّ عند انتشار الدّين الإسلاميّ، كان بإمكان "أهل الذّمّة" المسيحيّين القاطنين الدّيار الإسلاميّة، أن يسيروا بموجب قوانينهم الخاصّة بهم (Ibid., p. 230) ؛ نذكر على سبيل المثال لا الحصر، القوانين الكنسيّة المعترف بها من الدّولة الأمويّة التي كانت تتناول وظيفة البطريرك، وسلطته الرّوحيّة والزّمنيّة على المسيحيّين.

    فالطّابع المدنيّ الذي اتّصفت به سلطة البطريرك قبل الإسلام وبعده، كان الدّافع الأساسيّ إلى خلق مجموعة قانونيّة خاصّة في الشّرق، تسمّى بالنُومو-قانون  “Nomocanon” نظير "كتاب الهدى"، ويقال في اللاّتينيّة Liber Dierctionis الذي يُرجّح أنّ الكنيسة المارونيّة قد اعتمدته كشرع خاصّ لها في مطلع القرون الوسطى (راجع، بطرس فهد، حول  كتاب الهدى وتاريخ الطّائفة المارونيّة، مطابع الكريم الحديثة، جونيه 1945، ص. 62؛ راجع أيضا، جرجس منش، الحقّ القانونيّ عند الموارنة، ]د.ن.[، حلب 1925،  ص5-7) ، وهو يحوي مجموعة مختلطة من الحقّ القانونيّ  (Kanones)  وبعض القوانين "المدنيّة"(Nomi)  التي حدّدت صلاحيّات رؤساء الدّين الأعلين، مانحة للبطاركة بعض الامتيازات (Cf. P. Dib, Histoire de l'Eglise Maronite, Beyrouth, Editions La Sagesse, 1962 p. 66).

    يظهر جليّا في "كتاب الهدى" المذكور تبدّل مفهوم أولويّة السّلطة الكنسيّة عموما والبطريركيّة خصوصا، وتقدّمها على السّلطة الملكيّة أو الحاكم السّياسيّ في الشّرق المسيحيّ، منذ مطلع القرون الوسطى على الأقلّ (راجع، بطرس فهد، كتاب الهدى، وهو دستور الطّائفة المارونيّة في الأجيال الوسطى، حلب 1935،  ص. 224).

    كما يجلو بوضوح أكبر، حقّ البطريرك بالتّدخّل المباشر بسلطة الملك، في حال مخالفة هذا الأخير الشّريعة، حتّى درجة عزله (المصدر نفسه، ص. 224-225). إنّ هذه الامتيازات، في الواقع، كان يتمتّع بها بطريرك القسطنطينيّة (Cf. G. Pilati, Chiesa e Stato nei primi quindici secoli, Roma 1961, p. 106) الذي كان من واجبه السّهر على العدالة والإيمان والأخلاق داخل الإمبراطوريّة التّيوقراطيّة. 

    وبما أنّ الموارنة تبنّوا "كتاب الهدى" كما هو؛ وبما أنّه لم يكن لهم ملك يحكم أمّتهم، إذ لم يكونوا جزءا من الإمبراطوريّة البيزنطيّة، والإسلاميّة لاحقا، كان بطريركهم نفسه يرأس الأمّة المارونيّة بمعاونة الأساقفة والكهنة كنسيّا، وبمؤازرة الأمراء و"المُقَدَّمِين"، مدنيّا. أمّا العلاقة بينه وبين الأمراء والمقدّمين في المجتمع المارونيّ، فكانت لأشبه بعلاقة بطريرك القسطنطينيّة بالإمبراطور البيزنطيّ. 

    فالمقدّمون كانوا حكّام بعض المقاطعات المارونيّة، يعيّنهم البطريرك، ويمنحهم درجة الشّدياقيّة، وهذا شبيه قياسيّا بما كان يفعله بطريرك القسطنطينيّة عند تتويج الإمبراطور؛ وقد كان يحقّ للأمراء والمقدّمين الجلوس في الكنيسة بعد الكهنة، كما الإمبراطور عن يمين بطريرك القسطنطينيّة أمام المذبح. وللبطريرك المارونيّ أيضا، أن يعاقب "المقدّم" بالحرم الكنسيّ عندما يستدعي الأمر، كما كان لبطريرك القسطنطينيّة، حقّ توبيخ الملك إذا خالف الشّرائع، وخلعه من منصبه.

       انطلاقا من تسليمنا إذاُ، بأنّ "كتاب الهدى" هو مجموعة قوانين الكنيسة المارونيّة في القرون الوسطى، فمن الأرجح عندنا، أن يكون الموارنة قد ساروا وفقا لروحيّة تلك القوانين بالطّريقة التي أوردناها، وإلاّ تعسّر عليهم تطبيق قوانينهم كما يجب، وأصبحوا خارج القانون.

    1. عادة مارونيّة قديمة الأيّام

    ثمّة نظرة عامّة في الشّرق المسيحيّ منذ عصوره الأولى، تؤكّد أنّ البطاركة هم آباء ورؤساء لشعوبهم، ورمز وحدتهم العرقيّة والدّينيّة، ومرجعيّتهم الثّابتة؛ كما أنّ البعض منهم قد تميزّ بسلطان خاصّ يعود إلى اتفاقيّات جرت مع السّلطة المدنيّة (Cf. D. Salachas, Istituzioni di Diritto Canonico delle Chiese Cattoliche Orientali, EDB, Roma-Bologna 1993, p. 142). وعليه، إنّ تلك الاتّفاقيّات تصبح مع مرور الزّمن نوعا من التّسليم العفويّ بواقع الأمر، فتغدو عرفا وتقليدا، له قوّة القانون.

    أمّا البطريركيّة المارونيّة فقد تميّزت عبر تاريخها الكنسيّ الطّويل، بحالة فريدة من نوعها، من خلال دورها السّياسيّ المميّز بقيادة بطاركتها الذين ساهموا بقوّة في صنع الكيان الّلبنانيّ الحاليّ الذي اندمجت البطريركيّة فيه اندماجا وثيقا حتّى صرت تخال أن لا وجود للبنان بدون البطريركيّة المارونيّة، ولا وجود للبطريركيّة المارونيّة بدون لبنان.

    كما يجزم بعض الباحثين، في أنّ اللجوء إلى البطريرك المارونيّ في مختلف الأمور، كان بمثابة أمر طبيعيّ ومألوف، ثمّ أصبح فيما بعد جزءا لا يتجزّأ من التّقليد، كما يؤكّد المفكّر اللّبنانيّ كمال الحاج: "إنّ اللجوء إلى الصّرح البطريركيّ هو أمر عاديّ، طبيعيّ، تراثيّ، تقليديّ" (راجع، كمال الحاج، بكركي صخرة الخلاص، مطابع الكريم، جونيه 1973، ص. 21). يعود هذا الأمر إلى نشأة البطريركيّة المارونيّة، حيث وضع الشّعب المارونيّ ثقته الكبيرة في بطريركه، لأسباب دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة ووطنيّة (راجع، فيليب السّمراني، الذّخائر السّنيّة، ]د.ن.[ جونيه 1931، ص. 673) ، فالبطريرك هو خادم الموارنة وحاميهم ورأسهم الرّوحيّ والزّمنيّ وقاضيهم الأعلى (Cf. I. Aouad, Le droit privé des Maronites au temps des Émirs Chihab (1697-1841) d’après des documents inédits, essai historique et critique, P. Geuther, Paris 1933, p. 18).

هذا ما أكّده البطريرك أنطون عريضة نفسه، في رسالته إلى رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة، بشارة الخوري، في 15 تمّوز 1945، قائلا:</p>

“Le Patriarcat Maronite, ayant depuis des siècles travaillé à l’intégrité et à l’indépendance du Liban, les Libanais ne connaissaient d’autre Chef et Défenseur que le Patriarche Maronite et continuent à conserver en lui une pleine confiance…” (Cf. B. Daou, Histoire Religieuse, Culturelle et Politique des Maronites, Beyrouth 1985, pp. 978-979).

       والتّاريخ يشهد على علاقة البطريركيّة المارونيّة مع "جماعة الحكم المدنيّ"، التي لم تخضع إلاّ آنيّا وفي مرحلة مـتأخّرة للإمبراطوريّات التي كانت تحكم المنطقة الموجودة فيها منذ عهد الأموييّن إلى العثمانيّين؛ كما أنّ علاقتها مع الحكم الذّاتي اللّبنانيّ العامّ في العهدين المعنيّ والشّهابيّ، كانت جيّدة بصورة عامّة، حيث كان لها دور زمنيّ وسياسيّ مباشر وغير مباشر. أمّا  مع الحكم الذّاتي داخل الأمّة المارونيّة، فالبطريرك نفسه كان لها المرجع الرّوحيّ والزّمنيّ الأعلى، في آن معا، حتّى مشارف تحقيق استقلال لبنان.

     وفي مختلف الأحوال، قد أثبت التّاريخ صحّة مقولة شارل مالك المفكّر اللبنانيّ الكبير، عن البطريركيّة المارونيّة بأنّها "مركز روحيّ فريد في الشّرق الأوسط. الكلّ يتطلّعون إلى قيادته وتوجيهه. باستطاعة هذا المركز الكبير جمع شمل الموارنة وأكثر من الموارنة" (راجع، شارل مالك، "الكثير المطلوب"، الفصول (مجلّة)، عد.  3 (1980) 26).

***

* * *

الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على  دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: "شِعْر وْصَلا"، صدر عام 2001، و"أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة"،  صدر عام 2007.