بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي

روما، الخميس 9 يوليو 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من مقالة الأسس القانونيّة-الكنسيّة، لدور البطريرك المارونيّ في الشّؤون السّياسيّة. بامكانكم مراجعة القسم الأول بالضغط على هذا الرابط.

* * *

    3. "مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة"

 

    منح قانون 271 من "الارادة الرّسوليّة"Cleri Sanctitati ، الحقّ للبطريرك بممارسة "الحكم المدنيّ" إن كان ثمّة عادة جارية تجيز ذلك، وهذا ينطبق نسبيّا على ما كان يحدث باستمرار في تاريخ "الأمّة" المارونيّة، ضمن حدود انتشارها في جبل لبنان.

    أمّا التّشريع الشّرقيّ الكاثوليكيّ الحاليّ فلم يتبنَّ صراحة هذا القانون، لكنّه لم يبطله، وفقا لقانون 5 (م.ق.ك.ش.) الذي ينصّ على ما حرفيّته:

"إنّ الحقوق المكتسبة وكذلك الامتيازات التي منحها الكرسيّ الرّسوليّ للأشخاص الطّبيعيّين أو الأشخاص المعنويّين والمعمول بها حتّى اليوم بدون أن تنقض، تبقى بأكملها ما لم تنقضها نصّا قوانين هذه المجموعة".

    فالتّشريع الجديد إذاً، أمانة منه للتّقليد وأخذه بالاعتبار الحالة الخاصّة لبعض الكنائس الكاثوليّكيّة من النّاحيتين الكنسيّة والاجتماعيّة-السّياسيّة، ينظر إلى البطاركة الشّرقيّين الكاثوليك الذين يمثّلون كنائسهم البطريركيّة في جميع الشّؤون القانونيّة، وفقا للقانون 79، كمدافعين عن حقوق أبنائهم الكاثوليك أمام السّلطات المدنيّة.

    وقد أبرمت في بعض البلدان الشّرقيّة، اتّفاقيّات ومعاهدات بين البطريركيّات والسّلطات المدنيّة (Cf. Nuntia, 15 (1985) 5).

    كما أنّ هذا التّشريع الجديد، يختلف عمّا أوردته الإرادة الرّسوليّة المذكورة في قانون 281 الذي ربط صلاحيّة البطريرك، في إبرام المعاهدات مع السّلطة المدنيّة برضى أعضاء المجمع الدّائم أوّلا. أمّا مجموعة القوانين الجديدة، فتسلّط الضّوء على مجمع أساقفة الكنيسة البطريركيّة، كسلطة عليا.  لذا إنّ البطاركة الكاثوليك الشّرقيّين بعد موافقة مجمع أساقفة الكنيسة البطريركيّة والحبر الرّومانيّ، يحقّ لهم أنّ يعقدوا معاهدات مع السّلطة المدنيّة لا تتعارض مع توجّهات وقوانين الكرسيّ الرّسوليّ (Ibid., 2 (1976) 38-39) ، مع الحفاظ على المعاهدات المبرمة أو الموافق عليها من قبل الكرسيّ الرّسوليّ مع الدّول أو جمعيّات سياسيّة أخرى (راجع، مجموعة مؤلّفين، شروحات مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، (تنسيق الأب أنطوان راجح) جونيه 2005، ص. 138-139) ؛ هذا ما حدّده قانون 98 (م.ق.ك.ش.)، إذ لفت الانتباه أيضا، إلى عدم استطاعة البطريرك أن ينفّذ هذه المعاهدات ما لم يحصل على اعتماد الحبر الرّومانيّ لها. لأنّ ذلك أمرا ضروريّا لإطلاق المعاهدات وجعلها قابلة للتّنفيذ.

والقانون 100 يحدّد صلاحيّة البطريرك بأن ينقل إلى نفسه الشّؤون التي تتعلّق بأبرشيّات عدّة، وتمسّ السّلطة المدنيّة، والغاية من ذلك، توسيع إطار التّنسيق بين المحاولات من أجل نتيجة أفضل. لكن ليس بوسعه أن يقرّر فيها شيئا إلاّ بعد استشارة أساقفة الأبرشيّات الذين يعنيهم الأمر، وبرضى المجمع الدّائم؛ أمّا إذا لم يتمكّن من جمع أعضاء المجمع الدّائم، فينوب عنهم أساقفة النّطاق البطريركيّ إن وُجدوا، وإلاّ فالأسقفان الأبرشيّان الأقدمان في الرّسامة الأسقفيّة.

    إنّه لأمر مميّز جدّا في التّشريع الكنسيّ الشّرقيّ الكاثوليكيّ الحاليّ، أن يستطيع البطريرك عقد معاهدات مع السّلطة المدنيّة وفقا لما تقدّم. بل هو برهان جليّ على استقلاليّة المؤسّسات الكنسيّة في كلّ الأمور. 

    4. حقّ خاصّ وطبيعيّ للبطريرك المارونيّ

    إنّ الإكليريكيّ بادئ ذي بدء، هو مواطنّ كسائر المواطنين، له حقوق، وتترتّب عليه واجبات. يظهر ذلك بديهيّا، في حقّه بالانتخاب، والتّعبير عن رأيه تجاه وطنه وقضاياه.

فالحالة الإكليريكيّة لا تنزع عن المرء صفة الانتماء الوطنيّ؛ بل إنّ القانون الكنسيّ (قانون 384 بند 1، م.ق.ك.ش.) يوجب عليه بصفته خادم مصالحة الجميع في محبّة المسيح، أن يسعى إلى تعزيز السّلام والوحدة والوفاق القائم على العدالة بين النّاس، من دون أن يقوم بنشاطات حزبيّة أو نقابيّة، وإن لزم الأمر، بإذن الرّؤساء.

    وعليه، فالبطريرك المارونيّ هو مواطن لبنانيّ قبل أن يكون كاهنا وأسقفا وبطريركا، له ملء الحقّ كمواطن أولاّ بإبداء رأيه في المسائل السّياسيّة والاجتماعيّة والوطنيّة (راجع، كمال الحاج، بكركي...، ص. 27).

غير أنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، لأنّ البطريرك ليس مواطنا عاديّا وحسب، لا نقصد بذلك التّمييز ما بين المواطنين، إنّما نريد أن نسلّط الضّوء على حقيقة أمر واقع قد يزيد عمره عن ألف وأربعمائة سنة، وهو أنّه لا يصحّ أن نجعل رأي البطريرك في المرتبة عينها لرأي أي مواطن عاديّ، لأنّ لوجهة نظر البطريرك في الشّأن العام، قيمة وأهميّة ووزن وتأثير على جميع المستويات، محلّيّا وأحيانا كثيرة، إقليميّا وعالميّا. وعليه، فالبطريرك هو أكثر من مواطن! إنّه مرجعيّة وطنيّة لجميع المواطنين. لذا أصبح دوره في الشّأن العام، حقّا خاصّا وعامّا وطبيعيّا، ما من أحد يستطيع أن ينكره عليه.

    وبما أنّه هو الذي يمنح الإكليريكيّين الإذن بممارسة نشاط سياسيّ أو نقابيّ إن استوجبت ذلك حماية حقوق الكنيسة، والدّفاع عن الخير العام (راجع، ق. 384 بند 2 من (م .ق.ك.ش.)) ، فمن البديهيّ أن يكون، هو نفسه مرجعيّة روحيّة ووطنيّة، يدافع عن حقوق الكنيسة والوطن والمصلحة العامّة.

* * *

الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على  دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: "شِعْر وْصَلا"، صدر عام 2001، و"أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة"،  صدر عام 2007.