الأسس القانونيّة-الكنسيّة، لدور البطريرك المارونيّ في الشّؤون السّياسيّة (3)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي

روما، الجمعة، 10 يوليو 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثالث من مقالة الأسس القانونيّة-الكنسيّة، لدور البطريرك المارونيّ في الشّؤون السّياسيّة. لمراجعة الأقسام السابقة الرجاء الضعط على هذين الرابطين: القسم الأول ، و القسم الثاني.

* * *

    5. عُرف موغل في القدم

 

    العُرْف لغةً، هو ما تَعارف علَيه النّاس وما اسْتَقَرّ في الوسط الاجْتماعيّ وأَصبح عادة جارية بين مجموعة من الأشخاص في معاملاتهم.

أمّا العُرف في اللغة القانونيّة الكنسيّة فهو مرادف للعادة Consuetudine أي تصرّف ثابت موحّد تقرّه مجموعة أفراد وتحفظه فيمكنه بذلك أن يحصل على قوّة القانون.

1.بند :1

“لا يمكن أن تحرز قوّة القانون إلاّ عادة معقولة، تبنّتها بممارسة متّصلة وبلا منازع جماعة قادرة على الأقلّ على تسلّم شريعة، كما وحازت على التّقادم بمرور الزّمن (التّقادم في اللّغة القانونيّة هو مرور الزّمن على أمر ما كوسيلة لاكتساب حقّ شخصيّ أو فقدانه) المحدّد في الشّرع”.

2.بند 2:

“العادة التي يرذلها الشّرع صراحة، غير معقولة”.

3.بند 3:

“العادة المضادّة للقانون الكنسيّ السّاري، أو الغريبة عن التّشريع الكنسيّ، لا تحرز قوّة القانون ما لم يعمل بها على وجه شرعيّ لمدّة ثلاثين سنة متّصلة وكاملة؛ أمّا ضدّ قانون كنسيّ يتضمّن بندا يحرّم العادات المستقبليّة، فلا يمكن أن ترجح إلاّ العادة العائدة إلى مئة سنة أو العريقة في القدم”.

    بناءً على ما تقدّم، يمكننا التّأكيد قانونيّا، أنّ دور البطريرك المارونيّ الزّمنيّ في الشّؤون الوطنيّة والسّياسيّة، من أجل الخير العام، والدّفاع عن حقوق الكنيسة والوطن، يتلاءم مع ما تحدّده القوانين الكنسيّة الشّرقيّة.

    فبحسب القانون 1507 المدرج أعلاه، إنّ تعاطي البطريرك الشّأن العام، هو عادة معقولة، أقرّتها بممارسة متّصلة وبلا منازع “الأمّة” المارونيّة، والحكومات المختلفة التي توالت على حكم منطقة الشّرق الأدنى عبر التّاريخ، والإمارات الدّاخليّة في لبنان، فحازت هذه العادة على ما يسمّى قانونيّا “التّقادم بمرور الزّمن” المحدّد في الشّرع.

    فهي إذاً، “عادة” معقولة لا تخالف القانون الكنسيّ السّاري Praeter ius، وقد عُمل بها ليس مئة سنة فحسب بل ستّة عشر قرنا، فهي عريقة في القدم، ولذلك إنّها تحرز قوّة القانون.

    خاتمة

    ليس من المبالغة بشيء، أن يتعاطى البطريرك المارونيّ الشّأن العام المدنيّ والوطنيّ، لأنّ القوانين الكنسيّة عينها توليه أيضا هذا السّلطان، بحكم العرف والعادة وإبرام المعاهدات، كما أثبتنا.

    والبطريركيّة المارونيّة هي كيان كنسيّ قائم في ذاته، تربطه بالدّولة اللّبنانيّة علاقات سياسيّة وطنيّة بحكم التّاريخ وواقع تركيبة النّظام وشكل الدّولة. وثمّة خصوصيّة معيّنة لهذه البطريركيّة، تستحقّ البحث والتّنقيب؛ فدورها الزّمنيّ -شاء البعض أم أبى- لا يمّحى من ذاكرة التّاريخ المارونيّ واللّبنانيّ، وسلطتها –قَبِل البعض أم رفض- تشمل الشّأن العام الوطنيّ والاجتماعيّ الذي لا ينفصل عن الشّريعة الأدبيّة، كونها صوت الحقّ الصّارخ في براري السّياسة والمصالح الضّيقة إذ لا مصلحة لها سوى خلاص النّفوس والخير العامّ، وهي تستطيع في ظلّ النّظام الحاليّ القائم، أن “تتدخّل” في الشّؤون الوطنيّة والسّياسيّة لو شاءت.

بَيْد أنّ هذه البطريركيّة، بُعَيد استقلال لبنان، انطلاقا من توجّهات الكرسيّ الرّسوليّ العامّة من ناحية، واحتراما لدولة القانون العصريّة التي تحلم بتحقيقها من ناحية أخرى، تنازلت عن دورها المباشر في السّياسة، وباشرت بأداء دور غير مباشر في الشّؤون السّياسيّة والوطنيّة، بعدما أعادت الكنيسة الكاثوليّكيّة عموماً النّظر فيما يتعلّق بدورها في عالم اليوم، وراح فكرها الجديد يحملها إلى حصر عملها في الأمور الكنسيّة والرّوحيّة والشّأن العام الوطنيّ والاجتماعيّ، بعيدا عن دياميس السّياسة. ثمّ ذهبت الكنيسة المارونيّة في الآونة الأخيرة إلى حدّ التّمييز الصّريح، حتّى حدود الفصل، بين الدّين والدّولة، بدلا من اختزال الدّين في السّياسة، أو تأسيس السّياسة على منطلقات دينيّة لها صفة المطلق. فلا يجب على الكنيسة بعد اليوم القيام بمعركة سياسيّة كي تشيد مجتمعا أفضل عدالة، ولا ينبغي لها أن تقوم مقام الدّولة، لأنّها ليست دولة ضمن دولة، بل ترفض هذه البدعة، كما لا يجدر بها أن تكون وصيّة أو وكيلة ساهرة على دولة قاصرة. كما أنّها لا يمكنها ولا يجب عليها أن تبقى على حدة في معركة إحلال العدالة، على ما يؤكّد البابا بندكتوس السّادس عشر في رسالته “الله محبّة”؛ لأنّ فصل الدّين عن الدّولة لا يعني فصل السّياسة عن الأخلاق.

فما يعني البطريركيّة المارونيّة اليوم هو دورها الخُلُقيّ في الشّأن الوطنيّ العامّ، وممارسة سلطتها التّعليميّة Potestas magisterii بجرأة ووضوح، لأنّ تعاليمها وتوجيهاتها تلزم بدون شكّ، ضمائر من يتعاطى الشّأن العام الاجتماعيّ والسّياسيّ من أبنائها الموارنة. فيبقى دورها الوطنيّ بالرّغم من ذلك واجبا ورائدا وفعّالا، تعبّر عنه بصورة خاصّة، عبر تعزيز القيم الأدبيّة، ومساندة النّظام الدّيموقراطيّ،
والذّود عن حياض الوطن اللبنانيّ. 

* * *

الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على  دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: “شِعْر وْصَلا”، صدر عام 2001، و”أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة”،  صدر عام 2007.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير