لقد جرت العادة اليوم ان يعتبر يسوع كأحد اكبر مؤسسي الديانات الكبرى في العالم، وقد اعطي ان يختبر الله اختبارا كبيرا. ولهذا كان بامكان هذه الوجوه الكبيرة ان تتحدث عن الله الى أناس آخرين لم يتقبلوا هذا “الاستعدادالديني”، وان يجروهم معهم، نوعا ما، الى قلب اختبارهم الله. ويبقى ان هذا الاختبار هو اختبار انساني لله، وهو يعكس واقع الله الغير المتناهي في بعد روح انساني متناه ومحدود. فالمسألة هي ترجمة ما هو الهي، وهو دائما جزئي ومحدود باطار المساحة والزمن. وعبارة “اختبار” تشير الى تماس حقيقي مع الالهي، وهي تعبر ايضا عن حدود الشخص الذي يتقبلها. والشخص البشري لا يمكنه ان يمسك الا بجزء محدود من الواقع الملحوظ الذي، بالاضافة الى ذلك، يجب ان يشرح لاحقا. وبالتالي فان من كان له هذا الرأي يكون بامكانه ان يحب يسوع، ويختاره دليلا له في حياته. ولكن “اختبار الله” الذي عاشه يسوع، اذا تمسكنا به بهذه الطريقة يبقى اخيرا نسبيا، ويجب اكماله باجزاء الواقع الذي يكون قد لاحظه أناس آخرون عظماء في آخر تحليل، فان الانسان، الفرد، اذن يبقى هو المقياس: الفرد يقرر ما سيأخذ على عاتقه بين “الاختبارات” المختلفة ما هو مفيد له وهو غريب عنه. ولا يبقى اذ ذاك التزام اخير”.
وتضاد رأي الناس معرفة التلاميذ التي تعرب عن ذاتها بالاعتراف بالايمان. ماذا تقول؟ كل من الاناجيل الازائية يعطي صيغة مختلفة، ويوحنا من جهته يعطي ايضا صيغة اخرى. ويحسب القديس مرقس، ان بطرس يقول ببساطة:”انت هو المسيح”. وبحسب لوقا، ان بطرس يدعوه “مسيح” الله (الممسوح)، وبحسب متى يقول:”انت هو المسيح، ابن الله الحي”، وفي النهاية، لدى يوحنا، ان الاعتراف بايمان بطرس هو التالي:”انت القدوس، قدوس الله”
قد تدفع التجربة، انطلاقا من هذه الروايات المختلفة، الى اعادة تأليف تاريخ تطور الاعتراف بالايمان المسيحي. ان الفوارق بين النصوص تعكس، دونما شك، تطورا يتفتح شيئا فشيئا عبره ما لم يكن اولا مكتوبا بطريقة مشوشة في تمتمات الصيغ الاولية. من جهة الشرح الكتابي الكاثوليكي الحديث الترجمة الاكثر هالة – الناتجة عن هذه المقابلة بين النصوص – هي ترجمة بيار غريلو. بالنسبة اليه، لم يكن الامر يتعلق بتطور، بل بتضاد. ان اعتراف بطرس، بقوله ببساطة “انت هو المسيح” على ما اورد مرقس، ان اعتراف بطرس بالايمان كان يعكس دونما شك الهنيهة التاريخية، لان الامر كان يتعلق باعتراف بايمان “يهودي” بالمعنى الحصري الذي يعتبر في يسوع، رفضا لافكار العصر على انه المسيح السياسي. ان رواية مرقس وحدها هي منطقية متماسكة، لان المسيحانية السياسية وحدها تشرح ان بطرس يحتج على اعلان الآلام. وهذا ما أثار ردة فعل شديدة من يسوع، كما عندما يقدم له الشيطان السلطة فقال له يسوع:”اذهب ورائي يا شيطان! ان افكارك ليست افكار الله، بل افكار الناس”. بحسب غرولو، ان هذا التوبيخ القاسي لا ينسجم الا اذا توجه ايضا ضد الاعتراف بالايمان الذي سبقه، والذي تجاهله يسوع على انه ضلال.وخلافا لذلك ان ردة فعل يسوع تكون فاقدة كل منطق، لكونها جاءت بعد الاعتراف بالايمان، بحسب نص متى الذي هو ناضج كل النضج على الصعيد اللاهوتي.
ان النتائج التي استخلصها غرولو من ذلك تتفق ونتائج شراح الكتاب الذي لا يشاركونه شرحه السلبي لنص مرقس: ان الاعتراف بالايمان الذي نقله متى، قد تكون عبارة جاءت بعد الفصح، وهذا هو رأي عدد كبير من شراح الكتاب، لان صياغة الايمان بهذه الكلمات قد لا تكون ممكنة الا بعد القيامة. وعلاوة على ذلك يعود غرولو بكل ذلك الى نظرية خاصة تعلن ظهورا فصحيا للمسيح القائم من الموت لبطرس، وهو يشبه
هذا الظهور بلقاء بولس مع القائم من الموت الذي بحسب بولس، كان في اساس رسالته.
ان غرولو يقيم مقابلة بين كلمة يسوع: طوبى لك يا سمعان بان يونا: لانه لا لحم ولا دم اظهر لك ذلك، بل ابي الذي في السماوات والرسالة الى العبرانيين:” عندما ذلك الذي افرزني من بطن امي ودعاني بنعمته، طاب له ان يكشف لي ابنه لابشر ما بين الامم، لم استشر اللحم والدم 6 كما اورد ذلك غرولو. وراجع ايضا ان البشارة التي بشرتم بها ليست على سنة البشر، لاني ما تلقيتها ولا اخذتها من انسان، بل عن وحي من يسوع المسيح”. ان نص بولس والمديح الذي وجهه يسوع الى بطرس يجمع بينهماالايحاء الى الوحي والتأكيد بأن هذه المعرفة ليست من “لحم ودم”.
لقد استنتج غرولو ان يسوع القائم من الموت انعم على بطرس مثل بولس بظهور خاص (وهذا ما ذكرته في الواقع بضعة نصوص من العهد الجديد) وانه كما في حال بولس، لدى هذا الظهور، كشفت لبطرس رسالته الخاصة.
ان رسالة بطرس تهم كنيسة اليهود، وكنيسة بولس تهم كنيسة الوثنيين7. ويبدو ان الوعد الذي قطع لبطرس قد ادلي به لدى ظهور القائم من الموت لهذا الرسول وهو يقابل من وجه الدقة الرسالة التي وكلها الرب القائم من الموت الى بولس. ولا فائدة من مناقشة هذه النظرية بالتفصيل هنا، وخصوصا ان هذا الكتاب هو كتاب عن يسوع، ومخصص قبل كل للرب، وهو لا يبحث في الكنيسة الا بقدر ما يبدو ذلك ضروريا لفهم صورة يسوع فهما صحيحا.
واذا قرأنا بالتمعن الفقرات من 11 الى 17 من النص الاول من رسالة اهل غلاطية، نجد بسهولة الموازاة وايضا الفوارق بين النصين. واضح ان بولس يريد ان يبرز استقلالية رسالته الرسولية التي لا تنبثق من سلطة رجال آخرين. لكن الرب عينه اعطاه اياها. المهم بالنسبة اليه هو شمولية رسالته وخصوصية طريقه: بناء كنيسة انطلاقا من وثنيين. ولكن بولس يعرف ايضا انه لتكون رسالته فاعلة
، فهو في حاجة الى المشاركة مع الذين هم كانوا رسلا قبله. وبدون هذه المشاركة، فهو قد “يكون سعى عبثا”. لذلك انه، بعد ثلاث سنوات على ارتداده، – ثلاث سنوات قضاها في العربية ودمشق – عاد الى القدس ليلتقي بطرس وكيفا. وهناك التقى ايضا يعقوب اخا الرب. ولهذا ايضا، وبعد اربع عشرة سنة، يعود الى القدس هذه المرة برفقة برنابا وطيطس وقبل من اعمدة الكنيسة يعقوب والصفا ويوحنا، علامة المشاركة بمد اليد، وهكذا بطرس اولا وبعدئذ الاعمدة الثلاثة ظهروا كأنهم ضامنو المشاركة، وكالمراجع التي لا بد منها الضامنة مصداقية الانجيل ووحدته، وبالتالي، مصداقية الكنيسة الناشئة ووحدتها”.
ولكن هذا يكشف ايضا أهمية يسوع التاريخي الاساسية وتبشيره وقراراته. لقد دعا القائم من الموت بولس وسلمه سلطانه ورسالته الخاصة. ولكن القائم من الموت هو الذي كان سابقا اختار الاثني عشر، وأوكل الى بطرس مهمة خاصة، وذهب الى القدس ، ومات على الصليب وقام في اليوم الثالث. والرسل الاول هم شهود على ذلك. وهذا الاطار هو ما يكون الفرق الاساسي بين الرسالة الموكولة الى بطرس وتلك الموكولة الى بولس.
وخصوصية رسالة بطرس لا تظهر فقط لدى متى، فهي حاضرة ولو بصيغ مختلفة. انما بمضمون واحد، لدى لوقا، ولدى يوحنا، ولدى حتى بولس ذاته. ان بولس في رسالته الى اهل غلاطية، الدفاعية والمندفعة، يضع بوضوح سابقا خصوصية رسالة بطرس، وان أولويته قد أثبتها حقا التقليد في مجمله في مختلف أشكالها واعطاؤها أساسا ظهورا فصاحيا شخصيا، واقامة موازاة دقيقة مع رسالة بولس، هي غير مقبولة ببساطة كلية، من وجهة نظر مكتسب العهد الجدي”.
لكن قد حان الوقت للعودة الى موضوعنا الحقيقي الاعتراف بايمان يسوع كما أعرب عنه بطرس. رأينا ان غرولو يعتبر ان هذا الاعتراف، كما أورده مرقس، هو “يهودي” تماما ولهذا رفضه يسوع. ولكن ما من اثر لرفض يسوع هذا. ان يسوع يكتفي بمنعه من نشره على العامة. لانه قد يكون أسيء تفسيره في الواقع: ويكون دونما شك قد أدى من جهة الى اثارة آمال كاذبة، ومن جهة ثانية، الى اقامة دعوى سياسية على يسوع. وبعد هذا الخطر فقط، جاء تفسير ما يعني فعلا “المسيح”. ان المسيح الحقيقي، هو ابن الانسان الذي حكم عليه بالموت، والذي من اجل ذلك، لا يمكنه ان يدخل في مجده الا بعد ان يكون قد قام بعد ثلاثة ايام”.
ان البحث يميز نوعين من صيغ الاعتراف بالايمان بالعودة الى المسيحية الاولية: احداها تعتمد “اسماء” والاخرى تعتمد “صيغ افعال”. ويمكن الكلام ربما بطريقة أوضح، عن اعترافات موجهة “كيانيا” وعن اعترافات موجهة نحو تاريخ الخلاص. ان صيغ الاعتراف بايمان بطرس الثلاث التي نقلتها الاناجيل الازائية، تعود الى فئة”الاسماء”انت المسيح، مسيح الله،المسيح ابن الله الحي،الى هذه التأكيدات بصيغة الاسماء يقرن الرب دائما الاعتراف اللفظي:اعلان سر الصليب الفصحي والقيامة. هاتان الصيغتان للاعتراف بالايمان مترابطتان. واذا اخذت كل منها على حدة، تبقى ناقصة وبالتالي غير مفهومة. ودون تاريخ الخلاص الحسي – تبقى الالقاب مبهمة، وليس فقط اسم المسيح، لكن ايضا عبارة “ابن الله الحي”. وهذا اللقب ايضا يمكن فهمه فهما يضاد سر الصليب. وعلى العكس من ذلك، ان الاعلان بكلام دقيق عن تاريخ الخلاص يبقى دون عمقه الكياني ان لم يقل بوضوح ان الذي تألم، ابن الله الحي، هو مشابه لله. وانه هو قد جرد من كل شيء، وصار عبدا، وانحنى حتى الموت، موت الصليب. ان التداخل بين اعتراف بطرس بالايمان وتعليم يسوع التلاميذ يعيد الينا كمال الايمان المسيحي وجوهره. لهذا ان قوانين ايمان الكنيسة الكبرى قد ربطت بينها دائما”.
نعرف، على مر العصور واليوم ايضا، ان المسيحيين، مع امتلاكهم الاعتراف الصحيح بالايمان يحتاجون دائما الى ان يعلمهم الرب من جديد ان طريقه، في كل الاجيال، ليست طريق السلطة والمجد الارضي، بل طريق الصليب. انا نعرف ونرى اليوم ايضا، نحن المسيحيين، اننا نأخذ الرب على حدة لنقول له حاشا لك يا رب من هذا المصير. هذا لن يحدث لك. وبما اننا لسنا بمتأكدين ان الله سيجنبه ذلك، نحاول، مع كل ما نملك من اساليب، ألا يحدث ذلك. لذلك ان الرب يلتزم دائما ان يقول لنا :”سر خلفي يا شيطان”. ان كل هذا المشهد يبقى حاضرا حضورا مقلقا، لاننا في النهاية لا نفتأ نفكر انطلاقا من “اللحم والدم” وليس بحسب الوحي الذي أعطينا ان نقبله بالايمان” .ان الحديث عن يسوع وحياته وآلامه في سبيل الناس هو حديث شائك، ولكن يجب ان نسأل الله ان يفتح منا الاذهان لنفهم على قدر ما نستطيع ان نفهم من هو الله وما قاساه من آلام في سبيل الانسان، فعلى هذا ايضا ان يقرن آلامه بآلام السيد المسيح ليهون عليه حملها – آمين”.