بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الأربعاء 22 يوليو 2009 (Zenit.org). – “أنا راهب فقير يصلي”: بهذه الكلمات كان الأب بيو، القديس الكبوشي الذي عاش في جنوب إيطاليا في القرن الماضي يصف نفسه لكل من كان يسأله عما يرى في ذاته. لم يكن يتوقف على ذكر موهبة معرفة القلوب التي كان قد خصه به الله فكان يقرأ في نفوس من كان يتقرب منه للاعتراف والإرشاد كما في كتاب مفتوح. ولم يكن يتحدث عن خبرة التواجد في مكانين في اللحظة عينها التي يشهد لها العديد من معاصريه. وحتى لم يكن يصف نفسه انطلاقًا من الفضائل، بما في ذلك فضيلة التواضع وفضيلة الطاعة، بعد أن أرادت السلطة الكنسية أن تمتحن طاعته واتضاعه فمنعته عن الاحتفال بالافخارستيا علنيًا لمدة عشر سنين.
“أنا راهب فقير يصلي”، أنا مسيحي يصلي، هذا هو الجوهر الأول للكيان المسيحي إذا ما أردنا أن نجرده من كل ما هو “ثاني” و تالي. بمعنى أن المسيحي يكون خلاقًا، أو طائعًا أو عجائبيًا إلخ.. فقط إذا ما كان متجذرًا في الرب، يستمد حياته وقوته الروحية من المصدر، من الله.
ولكن ما هي الصلاة؟ تتعدد تعاريف الصلاة بقدر ما تتعدد خبرات المصلين، لدرجة أننا نجد حتى خلال حياة القديس الفرد، أو المصلي الفرد تعاريف مختلفة، متنوعة، تعبر كل مرة عن قليل من كثير من جوهر هذه الخبرة الجوهرية، التي اعتبرها المسيح يسوع كعمل المسيح الجوهري. نود في هذه المقالة أن نستعرض بشكل مقتضب جدّا فكر يسوع بشأن الصلاة كما نجدها في الأناجيل (القسم الأول)، وعيشه لها (القسم الثاني).
1. يسوع معلم الصلاة
1.1. الصلاة وأبوة الله
إذا ما تصفحنا العهد الجديد لوجدنا في كل صفحة إشارة ودعوة ودرس في الصلاة. كل لقاء كان يسوع يقوم به كان يتمحور على العلاقة الحقة مع الآب، وعلى الوعي لحضوره والدخول في تيار هذا الحضور من خلال الوعي واليقظة والحوار الوجودي.
في كلامه عن الصلاة نرى أن يسوع يؤمن، ويدعو إلى إيمان وطيد بحضور الآب، باهتمامه ببنيه، ولذا ليس هناك ضرورة للإسهاب في الصلاة، أو للتكرار العصابي لتعابير الصلاة وكأننا نستدرج الله للشفقة علينا. يقول يسوع: “إذا صليتم، لا تكرروا الكلام عبثا مثل الوثنيين، فهم يظنون أنهم إذا أكثروا الكلام يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم، لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه” (متى 6، 7 – 8).
والدعوة إلى الاعتراف بأبوة الله يرتبط بشكل حميم بالدعوة إلى بنوة صادقة نحو الآب وإلى تجاوز المظاهر والعجب والرغبة بالظهور أمام الآخرين للدخول في حميمية صادقة، مجردة، صافية النية مع الآب: “إذا صليتم،فلا تكونوا كالمرائين،فإنهم يحبون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع، ليراهم الناس. الحق أقول لكم إنهم أخذوا أجرهم. أما أنت، فإذا صليت فادخل حجرتك وأغلق عليك بابها وصل إلى أبيك الذي في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك” (متى 6، 5 – 6).
من ناحية أخرى هذه البنوة تتطلب علاقة أخوة مع أبناء الله، فالابن الحق هو أخ حق، ولذا يدعو يسوع إلى الغفران قبل الصلاة: “وإذا قمتم للصلاة فاغفروا، إن كان لكم على أحد شيء، لكي يغفر لكم أيضًا، أبوكم الذي في السماوات، زلاتِكم” (مر 11، 25).
1.2. الصلاة قوة تحوّل
إن يسوع الذي عاش حياتنا البشرية كان يدرك بالكامل ضعف طبعنا وحاجتنا إلى النعمة الإلهية ولذا دعا تلاميذه إلى الصلاة في كل حين وعدم القنوط (لو 18، 1)، ودعانا: “صلوا لئلا تدخلوا في تجربة” (لو 22، 40). كان يسوع يعرف أن الإنسان وحده لا يستطيع أن يكون على مستوى دعوته البشرية والإلهية، ولذا حض الرسل على السهر والصلاة، ولكن إدراك هذا الواقع هو صعب على البشر، فالرسل ناموا بالرغم من تحريض يسوع لهم ثلاث مرات خلال صلاته في بستان الزيتون بعد العشاء السري.
نصح الرب بالصلاة كحصن وسلاح لمواجهة معارك الحياة. كان يعرف أن هناك مشاكل تستعصي على الإنسان، وأن الله وحده يستطيع أن يحمله إلى الظفر. ولضعفنا نصحنا بالصلاة، مقدمًا صورة الكرمة والأغصان، وموضحًا أنه من خلال ثباتنا فيه يمكننا أن نأتي بثمر، ومن دونه لا نستطيع شيئًا (راجع يو 15). ويشدد يسوع في مطلع تعليمه بما يعرف بعظة الجبل على ضرورة صلاة الطلب فيقول:
“اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم. من منكم إذا سأله ابنه رغيفًا أعطاه حجرًا؟ أو سأله سمكة أعطاه حية؟ فإذا كنتم أنتم الأشرار تحسون العطاء لأبنائكم، فكم بالأحرى أباكم الذي في السماوات يمنح الصالحات للذين يسألونه؟!” (مت 7، 7 – 11).
في تعليمه الصلاة، لم يقدمها يسوع كوسيلة للهرب من مسؤوليات الحياة. فتعليمه بشأن الصلاة لا يجب أن يعتبر بشكل منفصل عن تعليمه الكامل. خلاص المسيح هو خلاص في العالم، لا من العالم!
ويفهمنا مثل الوزنات بوضوح أن على الإنسان أن يستثمر كل طاقاته، وإذا دفن أو خبأ واحدة منها فهو مسؤول عن ذلك أمام الله.
ويتحدث يسوع بوضوح عن الصلاة المقبولة لدى الله كصلاة يكون فيها تناغم بين الطلبة والعيش: “ليس كل من يقول لي ‘يا رب، يا رب‘ يدخل ملكوت السماوات؛ بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات” (مت 7، 21).
يمكننا أن نستعمل صيغة تنسب للقديس اغناطيوس دي لويولا مؤسس الرهبنة اليسوعية، تلخص موقف الإنسان الحياتي: “تصرف كما لو أن كل شيء يعتمد عليه، آمن كما لو أن كل شيء يعتمد على الله”. إنه مبدأ “العمل المشترك” (syn-ergia) بين الله وا
لإنسان، حيث لا يخفي الواحد عمل الآخر بل ينقحه ويدعمه.
1. 3. عصارة تعليم يسوع في الصلاة
هذا ويقدم لنا يسوع في صلاة الأبانا خلاصة تعليمه بشأن الصلاة. لن نتوقف في هذا المقام للتعليق بشكل دقيق على هذه الصلاة التي وصفها بحق العديد من اللاهوتيين والكتاب الروحيين بأنها “خلاصة الإنجيل”، ولكن يجدر بنا أن نشير إلى الكلمة التي تفتتح هذه الصلاة “أبانا”، الموقف الأول الذي يميز صلاة تلاميذ يسوع هو الثقة بأبوة الله، والابن يثق بأبوة أبيه، حتى عندما لا يكون على مستوى البنوة!
وبعد أن تقوم الطلبات الثلاثة الأولى بطلب تقديس اسم الله، مجيء ملكوته وتحقيق إرادته، تدور الطلبات الباقية حول العلاقة مع الإخوة التي هي إحقاق للبنوة “اغفر لنا كما نحن نغفر”، والصلاة للنجاة من الشرير الذي يدور – بحسب الصورة التي يقدمها كاتب رسالة بطرس الأولى – كأسد زائر يفتش على من يلتهمه.
وكل هذه الطلبات تتمحور حول طلبة هي في الوقت عينه ثقة بسيطة في عناية الآب السماوية الذي يعطينا الخبز اليومي، وطلب للخبز الجوهري، كما يترجم البعض، أي للخبز الافخارستي، ليسوع قوت نفوسنا وسندها. الطلبة المحورية في صلاة الأبانا، لا تطلب إلى الله فقط، بل تطلب الله، تطلب الخبز الافخارستي الذي يوحد ناسوت الإنسان بلاهوت الله، ولاهوت الله بناسوت الإنسان.
(يتبع)