بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الأربعاء 3 مارس 2010 (Zenit.org). – الإيمان هو واقع يُعاش في إطار ثقافة معينة، لأن الإنسان هو كائن تاريخي ويعيش طبيعته من خلال الانثقاف. حسه الإيماني يتجسد تحت تأثير الحس الثقافي السائد، وفي ظل المخيلة البشرية التي تقود خياراته وتؤثر فيها والتي هي بدورها خاضعة لتأثير الثقافة والحضارة السائدة. يفرض علينا فهمنا الديناميكي للثقافة – المغاير للفهم الكلاسيكي الذي كان يعتبرها كواقع جامد –أن نتعرف على الثقافة التي نتوجه إليها قبل أن نوجه إليها بشرى الإنجيل. يقدم اللاهوتي الكندي برنارد لونرغان (Bernard Lonergan) دور اللاهوت بهذا الشكل: "اللاهوت يقوم بفعل وساطة بين أرضية ثقافية وبين معنى ودور الدين في هذه الأرضية" (B. Lonergan, Method in theology, Toronto 2003, xi.). يُفهمنا اللاهوتي اليسوعي بأن المسيرة نحو عتبة الإيمان هي خاضعة لتأثير الحس الثقافي، وأنه يترتب على اللاهوت أن يعرف الثقافة إذا ما أراد أن يقوم بعمل انثقاف فعال لرسالة الإنجيل التي تدعو إلى الارتداد إلى الحب.

من وجهة النظر اللاهوتية، لا يكفي أن نستطلع المعطيات الملموسة والظواهرية، فهذه تشكل المرحلة الأولى من "الالتزام الثقافي نحو الحداثة" الذي يتحدث عنه بندكتس السادس عشر (Benedetto XVI, Discorso ai gesuiti nella basilica di s. Pietro, 22.04.06).

وينبه ماركو إيفان روبنيك، اليسوعي-الفنان المتخصص بدراسة الحداثة: "إذا لم نقم بقراءة روحية للمعطيات، نقع في خطر رد الفعل على التحديات التي تظهر على الصعيد الظواهري السطحي، والتي لا نعرف جليًا ما  إذا كانت تحديات روحية أم لا، ولذا نقع في خطر أن نقوم بعمل إيديولوجي بدل أن نقوم بعمل تبشير" (M.I. Rupnik, “La lettura spirituale della realtà”, in T. Špidlík – M.I. Rupnik, Teologia pastorale.  A partire dalla bellezza, Roma 2005, 25-26).

يجب على العكس أن تكون المقاربة اللاهوتية مقاربة تستعمل ما هو خاص باللاهوت، أي أن تقوم بقراءة وبتمييز روحي لمعطيات ونتائج الحداثة فتسهم بهذا الشكل بما يسمى بـ "خدمة المحبة" (diakonia della verità). يتوجب على القراءة الروحية أن تنظر إلى الواقع الروحي الكامن وراء المعطى الظواهري الذي يراه الجميع.

بكلمات بسيطة، يجب على اللاهوتي أن يضع أذنًا على الأرض ليسمع أنينها، وأن يبقى أذنًا أخرى مفتوحة نحو السماء، نحو كلمة الله الموحاة، ويجب أن يفتح عيون الإيمان وأن يقرأ بالعمق من خلال قلبه المؤمن الدوافع الكامنة ونتائج خيارات الحداثة على ضوء "لوغوس الحقيقة" (راجع 1 يو 1، 1).

يجب على اللاهوت أن يرى من خلال عيون الإيمان "كيف يأتي ذاك الذي هو دومًا حاضر"، بحسب تعبير القديس غريغوريوس النيصصي البديع. يجب عليه أن "يحرص كيف يصغي" (راجع لو 8، 18)؛ يجب أن يتفحص انفتاحنا المتسامي والاعتيادي على الارتداد نحو حب الله لنا، الذي هو بدء وغاية المسيرة الروحية.

إن خيارات الحداثة قد ولدت عوائد ثقافية هي حاضرة في إنتاجنا الفكري والثقافي، في حياتنا اليومية، وفي الأبعاد الغامضة والكامنة في وجودنا. كلمة scernere اللاتينية هو عبارة غنية بالمعاني فهي تعني الغربلة، التمييز، التقييم... هذا التقييم لا يعني التفريق أو التقسيم بل "رؤية المختلف في صلب المماثل، والمماثل في صلب المختلف". فإذا كان التفريق فعل يؤدي إلى الموت، التمييز هو فعل يحمل الحياة. لأن ما ليس مغايرًا أو متمايزًا هو مائت، غير موجود، بينما الوجود هو تناغم عدة عناصر متغايرة. يقول اليسوعي الإيطالي سيلفانو فاوستي: "التمييز هو فن قراءة يوضح لنا بأية اتجاه تحملنا رغبات قلبنا، دون أن نفسح المجال لتلك الرغبات التي تحملنا إلى حيث لا يجب أن نصل" (S. Fausti, Occasione e tentazione.  Scuola pratica per discernere e decidere, Milano 20055, 29).

على اللاهوت أن يطبق هذا الفن الجميل على قراءة التاريخ، وفي مقصدنا هذا، على قراءة الحداثة، لأنه "من دون التمييز، لا نتصرف بل نسمح للأحداث والأمور أن تتصرف بنا وللميول المتنازعة أن تخضنا وأن تحملنا إلى الانحلال التام" (المرجع نفسه).

كان آباء الصحراء ينصحون بطرح هذا السؤال على كل فكر: "من أين تأتي؟ هل أنت من خاصتنا أو من خاصة العدو؟". تبعًا لقاعدة الحكمة هذه، نتوقف على دراسة عناصر الحداثة التي نظرنا إليها في المقالتين السابقتين، لكي نسألها: من أين تأتين، أين تذهبين، وأين تحمليننا؟ ومن الثمار سنحكم على الأشجار (راجع مت 7، 16 . 20 ؛ لو 6، 43).

سنعتمد في تمييزنا مبدأ تمييز قدمه اللاهوتي الكبير رومان غوارديني (Romano Guardini): "المقياس الوحيد الذي نستطيع من خلاله أن نحكم على حقبة تاريخية هو معرفة إلى أي مجال نمى فيها الوجود البشري نحو ملئه، متوصلاً، تبعًا لخصائصه وإمكانياته، إلى معناه الحق" (R. Guardini, La fine dell’epoca moderna, Brescia 19999, 29).