بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الخميس 18 مارس 2010 (Zenit.org). – خلال عصر النهضة والحداثة، تحررت طاقات الإنسان. وإذ شاء الإنسان أن يكون مستقلاً وخالقًا لمصيره، انفصل عن المحور الديني الذي كان يشكل نواة الحياة في العصر الوسيط. أراد الإنسان أن يسير في درب حر ومستقل جاعلاً من مقرراته الشخصية معيار وجوده. واعتقد الإنسان الأوروبي أنه يكتشف للمرة الأولى الإنسانَ وعالمه. ولذا تفاخرت الحداثة، من ناحية، بالادعاء بأنها عصر اكتشاف الإنسان، وكأن الإنسان كان مسلوبًا ومنفيًا حتى ذلك الحين، ومن ناحية أخرى فرضت قراءة إيديولوجية للعصر الوسيط، فجاء "عصر التنوير" كرد على العصر الوسيط الذي اعتُبر كعصر الظلمات (Cf. W. Kasper, Introduzione alla fede, Brescia 200311, 17-20).

رأت الحداثة أن أسطورة التقدم ممكنة فقط إذا ما تحرر الإنسان من كل الهيكليات الدينية الخارجية التي لم تكن تسمح له أن يجرؤ على المعرفة والتفكير والخلق، أن يجرؤ بكلمة على أن يكون إله وجوده وكونه.

إن المنطق الكامن الذي يعبّر عنه بأشكال مختلفة ومتراكزة كل مِن فويرباخ، ماركس، نيتشه وسارتر هو التالي: إذا كان هناك إله، لا يمكن للإنسان أن يكون. بالنسبة لهم، الدين يحتكر ما هو في الأصل حق الإنسان، ولذا إذا ما أراد الإنسان أن يكون من جديد، لا بد أن يزول الله من الوجود.

ولكن، على عتبة القرن العشرين، انتقد الكثير من الكتاب الحداثة وثمارها. ولم يكن الفلاسفة أول النقاد بل رجالات الأدب والشعر والفن التشكيلي. كفى بنا أن نفكر بقصيدة تي أس أليوت (T.S. Eliot) "الأرض البور" (The waste Land) وملحمة "أوليسس" (Ulysses) للشاعر جايمس جويس (J. Joyce)، و "اعتبارات رجل غير سياسي" للأديب توماس مان (Thomas Mann)، حيث يقوم مان بانتقاد انحطاط وفراغ العالم الديموقراطي الليبرالي. ويكفي أن ننظر إلى لوحات إدفارد مونخ (E. Munch)، وبشكل خاص "الصرخة" و "البلوغ"، لنرى في ألوانه وفي تعابير الوجوه والعيون كرب الحداثة وقلق الإنسان الحديث، ويكفي أن نتتبع رسومات بيكاسو لنرى تعبيره العبقري عن انحلال الشخص البشري وانفطاره.

في الإطار الفلسفي واللاهوتي، تنبأ رومانو غوارديني عن نهاية العصر الحديث (Neuzeit)، وقبله في عام 1923، تنبأ برديايف بأن التاريخ الحديث "شارف على نهايته، وها إننا نبدأ حقبة مجهولة، يجب أن نعطيها اسمًا" (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 3). يعتبر برديايف أننا حدسنا نهاية العصر الحديث وتفاؤله العقلي والتقدمي عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى. فمنذ ذلك الحين بات وقع التاريخ "مأساويًا". يقول هذا الفيلسوف الروسي المرتد إلى المسيحية الأرثوذكسية بعد أن كان من المقتنعين بالشيوعية البولشيفية: "منذ زمن، حدس الأشخاص النيّرو العقل أننا على أبواب فواجع رهيبة. فقد كانوا يدركون العوارض الروحية تحت مظاهر حياة هادئة ومنظمة. بالواقع، إن الأحداث تجري في إطار الروح قبل أن تظهر في واقع التاريخ الخارجي" (المرجع نفسه).

لقد قال برديايف هذه الكلمات النبوية قبل عقدين تقريبًا من اندلاع الحرب العالمية الثانية، قبل معسكرات الاعتقال النازية، وقبل الحدث الذي وصفه البعض بـ "التأكيد الرهيب على أننا دخلنا في تعقيد ما بعد الحداثة"، أي الحادي عشر من سبتمبر 2001 (M.P. Gallagher, Clashing symbols, 2).

يتابع برديايف، الذي هو منظّر "العصر الوسيط الجديد" (nuovo medioevo) مصرحًا بأننا ندخل في عالم المجهول وفي غابة داكنة عذراء، ودخولنا لا يرافقه "لا الفرح ولا الرجاء المتألق". فنحن نعرف أنه لا يمكننا أن نؤمن بعد الآن بنظريات التقدم التي أغوت القرون الثلاثة التي سبقتنا. نحن الآن شهود لـ "انحسار النهضة" ولاضمحلالها. نهاية النهضة هي بالتحديد "نهاية وفشل الأنسية التي كانت ركيزتها الروحية" (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 5). لقد نظرت الأنسية وجهًا إلى وجه إلى تناقضاتها المتفجرة، وفقدت كل غضاضتها.

دخل الإنسان الحداثة حالمًا بالاستقلالية، فوجد نفسه في وحشة. دخل حالمًا بالاتصال، ولكنه لم يفلح بالتواصل، بل وجد نفسه منفردًا في حشد مستوحش (lonely crowd). أراد أن ينفي الله ولكن جل ما فعله هو أنه نفى الإنسان وأنشأ ما يمكننا أن نصفه بأنسية دون الإنسان وأن نسميه بـ "الأنسية المعادية للإنسان".

 (يتبع)