بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الخميس 11 مارس 2010 (Zenit.org). – من خلال بحثه عن الحقيقة، كان الإنسان الحديث يتوق إلى تأسيس استقلاليته وحريته. ومن خلال انغلاقه في حدود عقليته انعزل عن الآخر الذي بات "جحيمًا"، وأضحت فرادته فردانيةً.

الفردانية هي انحطاط للفردية وانسلاب للشخص، لأن الشخص البشري يوجد فقط في إشعاع نظرة الآخر إليه. ما يميز الوجود الشخصاني من الوجود الوضعي هو الجدلية العلائقية التي يعيشها الشخص البشري: إن علاقة الإنسان بذاته تمر من خلال جدلية تسليم ذاته للآخرين، وقبول ذاته من جديد من يد الآخرين. هذا الأمر ليس واقعًا روحيًا وحسب، بل هو واقع إنساني أولي: فالطفل يقوم بأول فعل شخصي بامتياز عندما يبادل أمه أو أبيه لأول مرة نظرتهما وابتسامتهما بنظرة وابتسامة، بحسب ما يلاحظ اللاهوتي هانس أورس فون بالتازار. هذه الابتسامة الأولى تُعمّد في وجود المرء أول فعل إنساني بامتياز، بعد سلسلة من الأفعال هي في جوهرها غرائزية مثل الأكل، البكاء، النوم...

الفردانية تعزل الشخص وتطفئ الإرادة الشخصانية الحرة، إذ تُغلق الزخم الإرادي في حلقة عدمية المُريد. البحث عن الاستقلالية في الحداثة يلبس طابع الانفصال عن الله وعن الإنسان الآخر. وهذا الانفصال غالبًا ما يضحي إزالة ومحوًا للآخر، وتطبيقًا لنظرة حسابية على الوجود، العالم والعلاقات. من خلال الفردانية، يعتزل الإنسان أفق المعنى الذي يتجاوز الفرد ملخصًا دينامية الوجود برغبات الأنا، فتغيب الغايات المتسامية والشخصانية وتنطفئ نجوم القيم لتحل مكانها القيمة الاقتصادية التي تجتاح العلاقات البشرية والدينية (Cf. G. Mucci, “La diffusione dell’individualismo e lo sgretolamento della solidarietà sociale”, in La Civiltà Cattolica III (1997), 473).

الفردانية تتناسى البعض الاقنومي (persona-hypostasis) للشخص البشري المستمدة من اللاهوت الثالوث وتختزله في نظرة نرسيسية تضحي موضة ثقافية واجتماعية متفشية. بكلمات مبسطة يضحي الإنسان المنطوي على كمالاته السطحية النموذج الذي تُسوِّقه وسائل الإعلام كمرجعية مرجوة.

اختبار الفردانية يحمل في طياته نتيجتين يقدمهما رومانو غوارديني بهذا الشكل:

أولا، ظهور الفردانية كحرية حركة وتعبير عن الذات. بحيث يظهر الإنسان ربًا لنفسه، يفعل، يتجبّر ويخلق، يواكبه الحظ ويكلله المجد.

ثانيًا، فقدان الإنسان لمكانه الموضوعي الذي كان قد تسلمه من صورة العالم القدين، ويخبر نوعًا من الوحشة والشجن الذي يختلف كثيرًا عن شجن إنسان العصر الوسيط (R. Guardini, La fine dell’epoca moderna.  Il potere, Brescia 19999, 39).

بكلمات آخرى، من خلال فردانيته يجد الإنسان الحديث ذاته ولكنه يفقدها في اللحظة عينها التي يجدها فيها، لأنه يجد نفسه فورًا في عالم فقد نقاط ارتكازه الرمزية. فالعالم بالنسبة له لا يعود خليقة بل يضحي طبيعة، ويجد الإنسان نفسه كخالق مكبل الأيدي أمام عالم يفوق طاقته ويتجاوز قدرته على السيطرة والتدبير.

إن اكتشاف واقع الفرد يشكل إرثًا هامًا في الحداثة ولكن التطرف في الفردانية يقضي على الإنسان. كَوَرَثَة الحداثة يجب علينا أن نحفظ هذا الإرث الذي يجعل منا رواد وجودنا، ولكن لا يجب أن ننغلق على دور البطولة هذا، بل علينا بالحري أن ننفتح على بنية ونموذج الدعوة لنعيش بطولتنا كجواب على دعوة تسبقنا وتسندنا. يضحي الإنسان رائد وجوده عندما يخرج من ذاته. فاكتشاف واقع الفرد هو كنز عظيم، كما برهن عالم الاجتماع الكندي تشارلز تايلور (Cf. C. Taylor, Radici dell’io.  La costruzione dell’identità moderna, Milano 1993)، ولكن تحقيق الفرد لذاته يمر من خلال تجاوز الفردانية، كما حدس الفيلسوف الروسي نيكولاي بردييايف (Cf. N. Berdjaev, Nuovo Medioevo.  Riflessioni sul destino della Russia e dell’Europa, Roma 2000, 25).

فقط من خلال الوقوف بحرية وتجرد أمام فرديته، يستطيع المرء أن يحمل ثمار فرادته. فقط عندما يتخلى عن تأمل سرّة بطنه يستطيع أن ينفتح على آخرية الكون، الإنسان والله وأن يدخل في سر الحب. نستطيع بهذا الشكل أن نفهم كلمات يسوع بمعناها الوجودي العميق: "إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض إذا لم تمت تبقى وحيدة، أما إذا ماتت فإنها تعطي ثمرًا وفيرًا" (يو 12، 24)، وأيضًا: "من أراد أن يخلص حياتها خسرها، أما من خسر حياته فيخلصها" (لو 17، 33؛ راجع يو 12، 25). إذا لم ينفتح أنا الإنسان على الله، يبقى أفقه مغلقًا داكنًا، ويؤدي إدراكه الذاتي لفردانيته إلى الشجن الذي يرافق وعي الحداثة، فيرى الإنسان نفسه "محكومًا على بالحرية" (سارتر) ومحكومًا عليه بالعدم (نتيشه). وحده الانفتاح على الآخر يجعل الإنسان يتذوق لذة الحرية الحقة التي تذاق في وجود تسنده دينامية المحبة.