بقلم الأب هاني باخوم
– التّجربة: كمال الوعد
روما،الاثنين 8 مارس 2010 (zenit.org). – . -… كبر اسحق وحان وقت اكتمال الوعد. الكلّ يتوقع انّه وقت زواجه كي ينعم ابراهيم بالنّسل؛ نسل لا يحصى، كرمال البحر. لكن الرّبّ يظهر له ويطلب منه ان يضحي بابنه الحبيب. نعم، ان يقتله ويقدمه محرقة له (تك 22: 2).
وهنا تسقط كلّ التّوقعات، بالاحرى تبدأ كلّ الشكوك: من هو هذا الاله الذي يعطي ثم يطلب ما اعطاه؟ من هو هذا الاله الذي يطلب من الأب ان يضحي بابنه وحيده؟ لماذا يطلب هذا؟ ولماذا اعطاه اياه من البداية؟ لماذا يطلب الله من الانسان ان يقدّم له اجمل ما لديه، لا بل بالاحرى كلّ ما لديه؟ لماذا يجب ان يموت اسحق؟ لمصلحة من؟ لخير ومنفعة من؟
نحن نعلم ان الله يمتحن ابراهيم فقط، وهو سيدبر، ولن يتركه يضحي بابنه (تك 22: 1) امّا هو فلا يعلم ذلك، يعرف فقط ما طلبه منه. وامام هذا يُبَكّر ويأخذ ابنه كي يضحي به. لكن الله يناديه ويطلب منه ان لا يلمس الصّبي، بل ان يقدّم بدلاً منه كبشاً قد دبره هو له (تك 22: 11-13).
ابراهيم ينجح في التّجربة. لكن لماذا هذه التجربة، لماذا يمتحن الله الانسان؟ هل يحتاج الى ذلك كي يعرف ما في داخلنا؟ الا يفحصنا ويعرفنا؟ فهو فاحص القلوب والكلى. لماذا اذاً المحنة والتّجربة؟ هل هي كي يعرف الانسان نفسه ويعرف مقدار ثقته بالله؟ هل تجعلنا ندرك مقياس ايماننا الفعلي كي لا نتوهم ونظن بانّنا قد وصلنا الى الايمان؟ اتجعلنا نرى ما لا نستطيع ان نراه بداخلنا وتساعدنا على معرفة انفسنا فقط؟
ابراهيم مستعد ان يضحي بابنه من اجل الله، حتّى ولو كان من الاسهل عليه ان يقدّم نفسه ذبيحة بدلاً منه. لأن موت الابن هو موت مضاعف للأب، انّه موت المستقبل مع حاضر ملؤه الحزن والبكاء. لكن ابراهيم مستعد ان يقوم بهذا العمل، لا كعمل تقوي او اخلاقي او بطولي، لكن كفعل يضع به الله قبل كلّ شيء، قبل عقله واسئلته وشكوكه، قبل عواطفه وحبّه لابنه، قبل حياته نفسها.
ابراهيم يعلن ان حياته لها معنًى واحداً وهدفاً واحداً وهو ان يحبّ الرّبّ بكلّ ما يملك، ان يفضله على ابنه، على نفسه، على عقله… على كلّ شيء. فتلك هي الحياة، تلك هي السّعادة الحقيقية ان يستطيع الانسان ان يحبّ الله ويخدمه.
الانسان خُلق من فيض حبّ الله، ويحيا من خلال هذا الحبّ، لكن لكي يحقق ذاته ويتنعم بالسّعادة لا يمكنه الا ان يحبّ: يحبّ الله. وهذا ما يفعله ابراهيم الآن، يحبّ الله قبل كلّ شيء. اي انّه يحقق ذاته في وسط التّجربة، في وسط المحنة، يحيا ويختبر الحياة الحقيقية، يحبّ الله ويطيعه.
التّجربة اذاً هي امكانية يعطيها الله للانسان كي يحقق ذاته كاملةً. ليست فقط امتحاناً لمعرفة شيء خفي، بل تصبح على عكس ما هو متوقع، عطية كي يحيا الانسان بالملء، امكانية لكمال الوعد. التّجربة هي فرصة، فرصة كي يحبّ الانسان الله، فرصة كي يحقق قلب النّاموس والشّريعة، اي ان يحبّه بكلّ قلبه ونفسه وقوته.
ابراهيم كان يبحث عن الله ويعبده كي يحصل على ابن. كان يتبعه كي يخدم نفسه. كان تعيساً وحزيناً، يعتقد ان سبب حزنه هو ان لا ابن لديه. لكن الله يعلم ان حزن ابراهيم العميق يأتي من عبوديته، من انّه يحيا من اجل نفسه ومن اجل ان يحقق ما يرغب به. يعطيه الابن، بل يعطيه ما هو اهم منه، يعطيه ان يحبّ، ان يحبّه ويخدمه ويطيعه قبل كلّ شيء. لذلك اصبح مستعداً ان يضحي بابنه، فقد ادرك ان حزنه لا يكمن في ان يكون لديه ابن ام لا، بل يأتي من عقمه اي من عدم قدرته على ان يحبّ مجاناً، لذلك هو مستعد الآن ان يضحي بابنه لأنّه تحرر من عبوديته الحقيقية، من عقمه، الله اعطاه ان يحبّ، ان يحيا لا من اجل ذاته بل من اجل الذي احبّه ودعاه وحرّره.
هذه هي التّجربة؛ امكانية للحبّ، امكانية ان لا يحيا الانسان لنفسه من بعد، بل من اجل الذي احبّه.
الهي الهي لماذا تركتني، عنوان سلسلة مقالتنا، صرخة اطلقها المسيح وقت التّجربة العظيمة، على الصّليب لحظة اعلانه انّه يحبّ الله بكلّ ما يملك. تلك الصّرخة والتي هي بداية المزمور 21 الذي ينتهي بالتّسبيح وتمجيد الله، لان كاتب المزمور يختبر انّ في وقت التّجربة الرّبّ اعطاه ان يحبّ الله وان يقدّم ذاته له، ان يحيا. هي صرخة المسيح الذي احبّ الآب بكلّ نفسه وبكلّ قوته وبكلّ عقله واحبّنا نحن كذاته. هي بداية اختبار القيامة، الدّليل على مغفرة الآب لنا، وعربون قيامة لكلّ من يشعر انّه الآن مدعو ان يحبّ الله وسط المحن، وسط التّجربة ويشعر برغبة في ان يصرخ: الهي الهي لماذا تركتني؟.