بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الثلاثاء 9 مارس 2010 (Zenit.org). – يصف المفكر فرانس روسنتزفايغ تداعيات مذهب العقلية في العصر الحديث بالقول: “لقد انتصر العقل، النهاية عادت إلى البدء، موضوع الفكر الأسمى هو ذاته، فما من شيء يخرج عن دائرة العقل؛ اللاعقلية عينها ما هي إلا حد العقلانية، وليست واقعًا يخرج عنها. ولذا فالعقلية قد انتصرت على كل الجبهات. ولكن ما أغلى ثمن هذا النصر! فقد تم تدمير مبنى الواقع: وقد تبخر الله والإنسان وأضحيا مجرد أفهوم يتداوله الإنسان المفكر؛ وبات الإنسان والعالم مجرد وسيلة في يد هذا الإنسان؛ وبات العالم مجرد جسر بين هذين المفهومين” (F. Rosenzweig, La stella della redenzione, Genova 1985, 153ss).
العقلية هي الاعتراف بالقيمة السميا والمصيرية لدور العقل البشري في الحياة النظرية والعملية للأفراد والجماعات، في العلوم وفي الدين؛ تقوم نظرة مذهب العقلية على فهم محدد للوجود البشري كنموذج بناء ذاتي (راجع القسم الثالث من المقالة). كما رأينا في ما قبل، لقد ربط ديكارت الله بدور الضامن (deus ex machina)، الله موجود لأنه ضروري لأفكاري الواضحة والمتباينة، أقر بوجوده لأنه أطروحة نافعة لوجودي. العلاقة بالله في النموذج العقلي هي علاقة نفعية، وسائلية.
يتوصل إيمانويل كانط إلى نتائج مماثلة، بحيث يبني نظامًا أخلاقيًا عقليًا يرتكز على أدبيات مستقلة. يقول كانط في كتابه ميتافيزيقيا العوائد: “الشخص لا يخضع لأية سلطة أخرى إلا تلك التي يتبناها شخصيًا (بمفرده أو بالتعاون مع الآخرين)” (I. Kant, Metafisica dei costumi, Milano 2006, 47). وهذا التأسيس المبني على الإنسان يجد ركيزته في مبدأ حرية الإنسان.
المشكلة اللاهوتية التي يطرحها كانط تظهر على نفس المستوى الذي يطرحها فيه ديكارت. أعمالنا ليست مقياسية لأنها مبنية على شرع إلهي، بل، على العكس، نعتبرها نحن شرعًا إلهيًا لأننا نشعر بأننا مرتبطون بها باطنيًا. الدين، بحسب كانط، لا يقدم أي شرع لا يستطيع العقل المجرد أن يكتشفه. ولذا يتجاوز كانطُ ديكارت في نظرته ، لأنه لا يقلب فقط هيكلية الأدبيات، بل يغير أيضًا هيكلية المعنى الخلقي: هدف الأدبيات ليس الله بل الإنسان. الله ليس هدفًا بل وسيلة لطوباوية الإنسان، طوباويةً يجدها في تناغم النظام الأدبي والنظام الطبيعي. وكل ما يظن الإنسان أنه يستطيع أن يقوم به ليرضي الله ما هو إلا “وهم ديني” و “خدمة مزيفة” لله (Cf. W. Kasper, “Autonomia e Teonomia. Sulla collocazione del cristianesimo nel mondo moderno”, in Teologia e Chiesa, Brescia 1989).
باسم مبدأ العقل، اكتشف العقليون استقلاليةً بشريةً متحررة من الركيزة الإلهية، بحيث أن “ضمان الذات ووعي الذات أضحيا المحور الأرخميدي لكل ضمانة، وبات العقل الوسيلة الوحيدة لإنتاج هذا المحور” (Cf. M. Seckler – M. Kessler, “La critica della rivelazione”, in W. Kern – H.J. Pottmeyer – M. Seckler (edd.), Corso di teologia fondamentale. Trattato sulla rivelazione, II, Brescia 1990, 33).
فكرة الله بحسب كانط هي مطبوعة في هيكلية العقل، وهي ليست واقعًا خياريًا، ومع ذلك فهي لا تملك أي رابط، لأن هدف الأدبيات كامن فيها. ولذا فإن فكرة الله نافعة كعون للوصول إلى السعادة، ولكنها ليست ركيزة هذه الأخيرة. يسهم كانط بجعل فكرة الله عاملاً أدبيًا، ويتم اختزال الدين بالأخلاق. في هذا الإطار يضحي العقل مناهضًا للدين الإيجابي ويتخذ خصائص الدين “الحق” لأن الركيزة التي تؤسس كل تقليد ديني وتاريخي هي قاعدة أخلاقية تسبق كل تقليد ديني.
بكلمات أخرى يضحي البعد الأخلاقي المعيار الحكم حتى في إطار الدين. ينقل كانط كنه الدين إلى مادية الأخلاق، ويتم الحكم سلبيًا على أي إيمان يرتكز على الطاعة وعلى البعد المعارفي للوحي كواقع غير عقلاني، لا بل غير أخلاقي (المرجع نفسه، 34).
لقد أساءت الحداثة فهم حركتها الإيجابية المتمثلة بقدرة تحرير مؤهلات الإنسان، وهذا لأنها تخلت عن جذورها العريقة التي هي دينية، وجذورها القريبة التي هي البعد العلماني للوجود، والذي ليس مرادفًا للعلمنة الجذرية. لقد كانت الحداثة “تعبيرًا عن أزمة إصلاحية، وعن انفصال لا سابق له وَسَّع فسحة الخبرة أكثر من أفق الانتظار” (C. Dotolo, “La relazione tra teologia e post-modernità: problemi e prospettive”, in Antonianum 76 (2001), 659).
لقد سمح إقرار الذات (Selbsehauptung) بابتكار لغة وجودية جديدة مبنية على جرأة المعرفة (sapere aude)، على التحرر، على الاستقلالية والثورة. ولكن من الناحية الروحية والأنثروبولوجية، أدى الانفصال عن التقليد إلى فقدان ميادين غنية بالمعنى مخلّفًا بالتالي فراغ معنى، ولذا توصلت الحداثة إلى أن تكون حداثة يتيمة في استقلاليتها، ومتضعضعة في وثبة تقدمها.