بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الاثنين 15 مارس 2010 (Zenit.org). – مذهب العقلية هو نزعة فكرية وفلسفية تجعل من العقل الصرف المرجعية الأساسية والوحيدة لفهم الإنسان، وتؤمن بأن العقل وحده يسمح للمرء أن يحوز على سيطرة كاملة لعالمه الفردي، الاجتماعي والديني. ليس هناك فسحة للثقة الوجودية نحو ما يسمو على الإنسان في هذه النظرة. من هنا ينطلق ديكارت من اعتبار الله كما لو كان “جنًا خادعًا” (genium maligium) ثم يتوصل إلى إعلان صلاح الله فقط بعد أن أسس ذلك عقليًا. والأسوأ من ذلك، ليس هناك ثقة وجودية نحو مَلَكَات الإنسان عينها، مثل العواطف، المشاعر، الأحاسيس، الغرائز، الحدس، الروح الخلاق… فبحسب هذه النظرة الفلسفية وحده العقل المجرد يستحق الثقة.
يكشف لنا واقع ما بعد الحداثة عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش واثقًا فقط بعقليته المشكِّكة. فهذه الحقبة تكشف لنا بشكل نبوي عن استحالة العيش انطلاقًا من معطيات الحداثة وحدها. [ملاحظة: نعني بتعبير ما بعد الحداثة الحقبة الفكرية والاجتماعية التي تلي الحداثة، والتي بدأت، بحسب رأي الكثير من المفكرين، مع نهاية القرن التاسع عشر]. يلحظ الكثير من المحللين البعد الإيجابي لـ “ما بعد الحداثة” في دحضها وتبديدها لأوهام وأساطير الحداثة، ويعتبرونها “ما بعد حداثة البناء”، لأنها تُحالفُ الإيمان فتفتح قبور أفق بشرية كان عصر التنوير قد دفنها، وتعد بزمن إنساني خلاق.
لقد رافقت ثورةَ عهد التنوير ثورة أخرى هي النهضة الرومنطيقية، ولكن الكنيسة، انشغلت في مواجهة هجمات فلاسفة التنوير وغضت الطرف عن الإسهام الذي كان باستطاعة فلاسفة النهضة الرومنطيقية أن يقدموها. وها إن واقع ما بعد الحداثة يأتي ليسلط الضوء على ما كان قد بقي طي التهميش.
يتبدد في ما بعد الحداثة الوهم بأن الإنسان يستطيع أن يضبط ويستوعب كل الوجود في قدرة عقله وأناه. نجدنا في ما بعد الحداثة أمام معرفة يمكننا وصفها بـ “ما وراء الميتافيزيقيا” أو “ما وراء الماورائيات”؛ إنها معرفة تشك بقدرة العقل البشري في إدراك الحقيقة في جوهرها الحميم، ولذا تسعى بالحري للوصول إلى معنى وجودي يخرج عن إطار العقل (para-razionale). تعتنق بعض تيارات ما بعد الحداثة إرث فلسفات الشك – مثل فلسفة جاك دريدا وجاني فاتينمو – وتجد نفسها في ميدان حرب ضارية لإيجاد نقاط ثابتة في معرض فكر تفكيكي. تسعى هذه الفلسفات إلى إيجاد “مراسي معنى” في “السقوط الأبدي” الذي يجد فيه الإنسان المعاصر نفسه بعد أن كُبتت التساؤلات الجوهرية.
ولذا، فلسفيًا، يشكل عصر ما بعد الحداثة فترة ضعف مزاعم العقل، الذي لا يقبل كمعطى غير نقدي معنى العالم، ويشكك بأي نظام يقدم معنى متكامل، وينتقد نتائج كل الأنظمة التوتاليتارية (المثالية، التجريبية، والسياسية…) التي ولدها العصر الحديث. ما بعد الحداثة هي حقبة فكرية تنتقد العقل الوسائلي الحديث الذي لم يعترف بطابع الإنسان وبوجه التاريخ الغامضين. هذه العقلية، بحسب مؤسس الظواهرتية، إدموند هوسرل، تسببت بـ “تناسي الحضور” وبفقدان أهمية معرفة عالم الحياة، مشاكل الفرد والوجود البشري، وأدت إلى انسلاخ هذه الوقائع عن إطار العقل وإلى وقوعها في خانة اللاعقلانية (Cf. E. Husserl, La crisi delle scienze europee e la fenomenologia trascendentale, Milano 1999).
في وجه حداثة آمنت بالعقل أكثر من الضروري، حمل نوّاسُ (pendulum) التاريخ حقبةَ ما بعد الحداثة إلى الإيمان بالعقل أقل من الضروري. تظهر قلة الإيمان بالعقل في تيارات ما بعد الحداثة الفلسفية مثل التاريخانية، البرغماتية، الانتقائية (eclecticism)، ولكن بشكل خاص العدمية (راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة “الإيمان والعقل”، 86 – 90). ولكن عدم الثقة بالعقل ليست وجه ما بعد الحداثة الوحيد. هناك وجه آخر، هو ما بعد الحداثة الخلاقة والنبوية، التي يمكن أن تكون حليفة للإيمان، لأنها، بكل بساطة أقرب إلى الإنسان بكليته.
إن ما بعد الحداثة هذه هي، بحسب ما يلاحظ دايفد ترايسي، أكثر انفتاحًا لما هو نبوي، كوني، وشراكي في الخبرة الدينية. إن ثورتها على عقلية الحداثة المتطرفة هي ردع فعل على مذهب العقلية الذي كان يبشر بعقل منفصل، عدائي، ديكتاتوري، معادٍ للحياة والحيوية. العقل المنفصل الحديث لم يفسح مجالاً لتفسير الإنسان بل خلق وثنًا لا فسحة فيه للزخم الحيوي (élan vital) وللطابع الأيقوني للكائن البشري الذي يحمل صورة الخالق، والذي لا نصل إليه بواسطة العقل المنفصل بل فقط إذا ما فتحنا العقل على كل أبعاد الشخص البشري، وإذا ما فتحنا الشخص البشري على سعة الحب. لقد اكتشفت حقبة ما بعد الحداثة الخلاقة والنبوية هذه الأبعاد، وأتت لتقول ما قد سكتت عنه الحداثة. ما بعد الحداثة هذه هي أكثر انفتاحًا على الحقيقة الدينية التي يتحدث عنه الكتاب المقدس وبشكل خاص الإنجيلي يوحنا (راجع مفهوم الحقيقة – Aletheia في فكر الإنجيلي يوحنا).