بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الثلاثاء 23 مارس 2010 (Zenit.org). – إن كل مسعى مذهب العقلية وعصر التنوير والإلحاد الأنسي إنما يتلخص بِنِيّة إعادة الإنسان إلى ذاته عبر انتزاعه من أيدي الألوهة ومن قيود الطاعة لتسليمه لحريته، استقلاليته وعقله.
كانت هذه مقدمات نظريات التقدم الأفقي. ولكن تطور الأمور في إطار التاريخ لم يقد إلى الأهداف المرجوة، بل كذبت النتائجُ الوعودَ وألقت وصمة عار على مُنتَج الحداثة.
بحسب تحليل نيكولاي برديايف، كان للحداثة بدء إيجابي عندما لم تكن بعد وثنية أو معادية للمسيحية. فبدء الحداثة، أو عصر النهضة كان مليئًا بالزخم الروحي الذي خزّنه خلال العصر الوسيط. (cf. N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 13). يلاحظ الفيلسوف الاجتماعي الروسي أن “عصر النهضة كان موجودًا في أعماق العصر الوسيط، وأن زخمه الأولي كان مسيحيًا بالكامل. فنفس العصر الوسيط، النفس المسيحية قد استيقظت على إرادة الخلق” (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 11). بحسب برديايف، يستطيع الإنسان أن يكون خلاقًا فقط عندما يكون عنده الزخم الروحي للإبداع. فإبداع عصر النهضة هو من مخزون العصر الوسيط المسيحي. نفد هذا المخزون مع مرور الزمن وأدى إلى انحباس قدرة التطور الحقيقي. كما رأينا سابقًا، إن الكثير من رجالات وعباقرة العصر الحديث كانوا مسيحيين، ولو على طريقتهم (ديكارت، كانط، هيغيل…). ولكن عندما استنفدت الحداثة طاقتها الروحية، أي عندما تحول الطابع العالمي (secolarizzazione) إلى علمانية متطرفة (secolarismo radicale) هي عدوة لدودة للدين، خسرت الحداثة ركائزها ووصلت إلى تدمير الذات الماسوشي. ففردانيتها التي أرادت أن تعلن فرادة الإنسان إنما أبرزت وحشته وعزلته ودمرت أسس شخصانيته.
يحلل برديايف شخصيتين أساسيتين أثرتا بشكل جذري في العصر الحديث: فريدريخ نيتشه وكارل ماركس، المفكران الذين مثّلا بعبقرية كثيفة إنكار الذات وتدمير الذات اللذين عاشتهما أنسية العصر الحديث.
يقول برديايف: “مع نيتشه، تتخلى الأنسية عن ذاتها وتدمر ذاتها في إطارها الفرداني؛ مع ماركس تدمر ذاتها في إطارها الجماعي والشمولي. إن الفردانية المجردة، مثل الشمولية المجردة هما ثمرة عامل واحد، وهو انفصال الإنسان عن الركيزة الإلهية للوجود، وابتعاده عن الواقع الملموس” (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 28).
نيتشه هو ابن الأنسية وضحيتها في آن. في مصير نيتشه تتحول الأنسية إلى عكسها. “يحدس نيتشه أن الإنسان هو ‘عار وذل‘. يتحرق من رغبة أن يراه يتجاوز نفسه؛ فإرادته تتوق إلى الإنسان المتفوق. أدبيات نيتشه لا تقرّ بقيمة الشخص البشري؛ يقاطع نيتشه ما هو بشري، يبشر بالقساوة تجاه الإنسان، باسم غاياته الفائقة الإنسانية، باسم ما هو مستقبلي وبعيد، باسم ما هو سامٍ. يحل الإنسان المتفوق لدى نيتشه مكان الإله المفقود… ولكن مع الفردانية الصوفية الفائقة يضيع نيتشه الإنسان” (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 29).
بالطريقة عينها، يضيع الإنسان في الشمولية الفائقة الإنسانية التي يبشر بها ماركس. روحيًا، يتحدر ماركس من دين فويرباخ الأنسي. ولكن، بطريقة قريبة من نيتشه، رغم التمايز البسيط، تتحول أنسية ماركس إلى عكسها، فتضحي لا إنسانية. إن مفهوم ماركس الفلسفي والاجتماعي لا يقرّ بالفردية البشرية، تلك التي كان يتغنى بها معلمه فويرباخ، الذي كان يعتبر الإنسان جوهر وكنه كل ما هو إلهي أو بالحري كل ما هو مؤلَّه (L. Feuerbach, L’essenza della religione, Roma 1994, 45). يشعر ماركس أن الفرد البشري هو إرث العالم البورجوازي القديم، ولذا يجب تجاوزها عبر الشمولية. أدبيات ماركس لا تقبل بقيمة الشخص البشري الفرد. ولذا فماركس أيضًا يطلّق البشري ويبشر بالقساوة تجاه الإنسان باسم المجموعة، باسم الأمة المستقبلية، باسم الدولة الشيوعية الاشتراكية. تحل الشمولية عند ماركس مكان الإله المفقود.
يصرح إيمانويل مونيه بتبصّر ثاقب بأن “الماركسية هي تفاؤل للجماهير مبني على تشاؤم بشأن الأفراد”. إن شمولية ماركس لا تقبل الفردية البشرية مع ما تحمله من حياة باطنية لا متناهية، مع أن هذه الأخيرة كانت محط انتباه كبار الأنسية الألمانية مثل هردر وغوتيه. الشيوعية الماركسية تنطلق من ركيزة أنسية، ولكنها تنتهي بإنكار لهذه الركيزة. يضحي الفرد وسيلة في يد المجموعة الاجتماعية وانزيمة لتقدمها. “لا يتم اعتبار الشخص كفرد، بل كجزء من المجموعة. الفرد هو انعكاس للبنية الاجتماعية التي ينتمي إليها. وبقدر ما يعكس هذه البنية بصفاء بقدر ذلك يكون كاملاً. يجب أن يتمحور جهده على أن يتوصل ليكون عضوًا مندمجًا بالكلية في دينامية المجتمع” (I. Fuček, “Marxismo”, in R. Latourelle – R. Fisichella (edd.), Dizionario di teologia fondamentale, Assisi 1990, 684). إن وعي الطبقة العاملة هو بالعمق وعي لم يعد يملك شيئًا من الأنسي، لا بل أضحى لاإنسانيًا. فالطبقة تحل مكان الإنسان. تمامًا كما يحل الإنسان المتفوق الوهمي بدل الإنسان الملموس في نظرة نيتشه.
خلاصة القول، إن هاتين القمتين الشامختين في تاريخ الحداثة الداخلة في فسيح ما بعد الحداثة تتلاقيان في دراما تحول أحلام الأنسية إلى نفي للإنسان. في نفيهما لله وخلقهما للإنسان الإله وللمجموعة الإله، بددت الفلسفتان النيتشية والماركسية هدف التأليه: الإنسان، وخلّتا وعي إنسان ما بعد الحداثة وعيًا ثاقبًا يحمل بين يديه جثة أحلامه.
(يتبع)