روما، الاثنين 08 نوفمبر 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر خلال القداس الذي ترأسه نهار الأحد لتكريس كنيسة العائلة المقدسة في برشلونة، التي وضعها في عداد البازيليكات الصغرى.
بعد المحطة الأولى في سانتياغو دي كومبوستيلا بتاريخ السادس من نوفمبر، استكمل البابا زيارته الرسولية الثانية إلى إسبانيا وتحديداً إلى برشلونة نهار الأحد الواقع فيه السابع من نوفمبر.
احتفل البابا بالقداس بحضور أكثر من ألف كاهن وأسقف وكاردينال، وبحضور الملك خوان كارلوس والملكة سوفيا اللذين اجتمع معهما بندكتس السادس عشر في لقاء خاص قبل الاحتفال الديني.
وقد حظي البابا لدى وصوله بالترحيب من قبل رئيس مؤسسة العائلة المقدسة والمهندس جوردي بونيت إي أرمينغول الذي يدير حالياً أعمال الرائعة التي بدأها المهندس الكاتالوني الشهير أنتوني غاودي (1852-1926) سنة 1882.
***
قال بالكاتالونية:
إخوتي وأخواتي الأحباء في الرب،
“هذا يوم مقدس للرب إلهكم! لا تنوحوا ولا تبكوا!… فرح الرب قوتكم!” (نحم 8: 9، 11). بهذه الكلمات المأخوذة من القراءة الأولى التي أعلناها، أود أن أحييكم أنتم الحاضرين هنا للمشاركة في هذا الاحتفال. أوجه تحياتي الحارة لصاحبي الجلالة ملك وملكة إسبانيا اللذين أرادا الانضمام إلينا بمودة. كما أوجه تحيات الشكر لنيافة الكاردينال لويس مارتينيز سيستاش، رئيس أساقفة برشلونة، على كلماته الترحيبية ودعوته لتكريس كنيسة العائلة المقدسة، الملخص الرائع عن التقنية والفن والإيمان. وأحيي أيضاً الكاردينال ريكاردو ماريا كارلس غوردو، رئيس أساقفة برشلونة المتقاعد والكرادلة الآخرين وإخوتي في الأسقفية وبخاصة الأسقف المعاون في هذه الكنيسة الاستثنائية، إضافة إلى الكهنة والشمامسة والإكليريكيين والرهبان والمؤمنين الكثر المشاركين في هذا الاحتفال الرسمي. في الوقت عينه، أوجه تحيات الاحترام للسلطات الوطنية والإقليمية والمحلية ولأعضاء الجماعات المسيحية الأخرى الذين يتحدون مع فرحنا ومع فعل شكرنا لله.
وبالإسبانية:
يشكل هذا اليوم وقتاً مهماً في تاريخ طويل من الطموحات والعمل والسخاء، تاريخ يستمر منذ أكثر من قرن. أود الآن أن أذكر كل الأشخاص الذين سمحوا بوجود هذا الفرح الذي يملأنا اليوم جميعاً: من رعاة إلى منفذي هذا العمل؛ من مهندسين وبنائين إلى جميع الذين قدموا إسهامهم الاستثنائي بطريقة أو بأخرى لجعل بناء هذا الصرح ممكناً. ونتذكر بخاصة من كان محرك وصانع هذا المشروع: أنتوني غاودي، المهندس العبقري والمسيحي الذي ظل مشعل إيمانه مضاءً حتى نهاية حياته التي عاشها بكرامة وتقشف مطلق. هذا الحدث يشكل أيضاً بطريقة ما ذورة ونتيجة تاريخ هذه الأرض الكاتالونية التي قدمت حشداً من القديسين والمؤسسين والشهداء والشعراء المسيحيين، بخاصة منذ نهاية القرن التاسع عشر. إنه تاريخ قداسة وإبداعات فنية وشعرية نشأت عن الإيمان، إبداعات نجمعها اليوم ونقدمها لله في سر الافخارستيا هذا.
إن الفرح الذي أشعر به لإمكانية ترؤس هذا الاحتفال ازداد أيضاً عندما علمت أن هذا الصرح المقدس مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقديس يوسف منذ بداياته. وقد تأثرت بخاصة بثقة غاودي عندما هتف بثقة في العناية الإلهية أمام المصاعب العديدة: “القديس يوسف سيكمل الكنيسة”. وبالتالي، فمن المعبر الآن أن يكرسها بابا اسمه يوسف في المعمودية.
ماذا يعني تكريس هذه الكنيسة؟ في قلب العالم، أمام الله والبشر، وفي فعل إيمان متواضع وفرح، رفعنا كتلة مادية ضخمة، ثمرة الطبيعة والمجهود العظيم للذكاء البشري الذي أنتج هذا العمل الفني. إنها دليل منظور على الله غير المنظور الذي ترتفع لمجده هذه الأبراج كسهام تشير إلى النور المطلق وإلى من هو النور والعظمة والجمال.
في هذا الإطار، أراد غاودي أن يجمع الإلهام الذي كان يستمده من الكتب الثلاثة العظيمة التي كانت تغذيه كإنسان ومؤمن ومهندس: كتاب الطبيعة، الكتاب المقدس، وكتاب الليتورجيا. هكذا، جمع واقع العالم وتاريخ الخلاص، كما يرويه لنا الكتاب المقدس، وكما تظهره لنا الليتورجيا. لقد جعل الحجارة والأشجار والحياة البشرية جزءاً من الصرح المقدس لكي تتلاقى الخليقة جمعاء في التسبيح الإلهي، لكنه وضع في الوقت عينه الصور المقدسة من الخارج ليقدم للبشر سر الله الذي انكشف في ميلاد يسوع المسيح وآلامه وموته وقيامته. هكذا، ساعد بشكل عبقري في إنشاء ضمير بشري راسخ في العالم، منفتح على الله، ملهَم ومقدَّس بالمسيح. وأدرك ما يعتبر اليوم إحدى المهام الأكثر أهمية: تخطي الانشقاق بين الضمير البشري والضمير المسيحي، بين الوجود في هذا العالم الزمني والانفتاح على الحياة الأبدية، بين جمال الأشياء والله الذي هو الجمال. لم يدرك أنتوني غاودي كل ذلك فقط بكلمات، بل بحجارة وخطوط ومساحات وقمم. ففي الواقع أن الجمال هو أعظم حاجة لدى الإنسان؛ فهو الجذر الذي ينبثق عنه جذع سلامنا وثمار رجائنا. كما أن الجمال يظهر لنا الله لأن العمل الجميل هو مثله مجانية بحتة، وهو يدعونا إلى الحرية ويبعدنا عن الأنانية.
لقد كرسنا هذه المساحة المقدسة لله الذي ظهر لنا ومنحنا ذاته في المسيح ليكون الله بين البشر. الكلمة الموحاة، بشرية المسيح، وكنيسته هي العلامات السامية الثلاث لتجليه وهبة ذاته للبشر. يقول القديس بولس في القراءة الثانية: “لينتبه كل واحد كيف يبني. فليس ممكناً أن يضع أحد أساساً آخر بالإضافة إلى الأساس الموضو
ع، وهو يسوع المسيح” (1 كور 3: 10، 11). الرب يسوع هو الصخرة التي تتحمل ثقل العالم، والتي تحافظ على تماسك الكنيسة وتجمع كل إنجازات العالم في وحدة نهائية. فيه، نجد كلمة الله وحضوره، ومنه تنال الكنيسة حياتها وعقيدتها ورسالتها. الكنيسة لا تستمد تماسكها من ذاتها؛ وهي مدعوة لأن تكون رمز وأداة المسيح، في طاعة لسلطته وفي خدمة تامة لتفويضه. المسيح الأوحد يؤسس الكنيسة الواحدة؛ إنه الصخرة التي يقوم عليها إيماننا. بالتأسيس على هذا الإيمان، نسعى معاً لنظهر للعالم وجه الله المحبة والأوحد الذي يمكنه الاستجابة لرغبة الإنسان في الكمال. هذه هي المهمة الكبرى التي تقضي بأن نظهر للجميع أن الله إله سلام لا عنف، حرية لا إكراه، وئام لا خلاف. من هنا، أعتقد أن تكريس كنيسة العائلة المقدسة هو حدث مهم جداً في زمن يدعي فيه الإنسان أنه يؤسس حياته بإشاحة النظر عن الله، كما لو لم يتبق عنده ما يقوله له. من خلال عمله، يرينا غاودي أن الله هو المعيار الفعلي للإنسان، أن سر الأصالة الفعلية يقوم كما كان يقول على العودة إلى الجذور أي إلى الله. من خلال فتح ذهنه لله، استطاع بنفسه أن يخلق في هذه المدينة مساحة من الجمال والإيمان والرجاء، مساحة ترشد الإنسان إلى لقاء من هو الحقيقة والجمال. كان المهندس يعبر عن مشاعره على هذا النحو: “الكنيسة هي الشيء الوحيد الجدير بأن يمثل ما يشعر به شعب، لأن الدين هو أسمى ما في الإنسان”.
هذا التأكيد على الله يحمل في طياته التأكيد والحفاظ العظيمين على كرامة كل إنسان وجميع البشر: “ألا تعرفون أنكم هيكل الله… وأن هيكل الله مقدس، وهو أنتم” (1 كور 3: 16، 17). هنا، تتحد حقيقة وكرامة الله بحقيقة وكرامة الإنسان. من خلال تكريس مذبح هذه الكنيسة، والتذكر دوماً بأن المسيح أساسها، نقدم للعالم الله صديق البشر، وندعو البشر إلى أن يكونوا أصدقاء الله. وكما يعلم فصل زكا الذي يتحدث عنه إنجيل اليوم (لو 19: 1، 10)، فإن سمح الإنسان لله بأن يدخل إلى حياته وعالمه، إن سمح للمسيح بأن يعيش في قلبه، فلن يندم أبداً بل على العكس سيختبر تجربة فرح مشاركة حياته نفسها بما أنه هدف محبته اللامتناهية.
انطلق بناء هذه الكنيسة بمبادرة من جمعية أصدقاء القديس يوسف التي أرادت تكريسها لعائلة الناصرة المقدسة. ولطالما اعتبرت الأسرة المؤلفة من يسوع ومريم ويوسف مدرسة محبة وصلاة وعمل. أراد رعاة هذه الكنيسة أن يقدموا للعالم حياة المحبة والعمل والخدمة المعاشة في حضرة الله، كما عاشتها عائلة الناصرة المقدسة. لقد تغيرت الظروف الحياتية بشكل كبير ومعها تقدمنا كثيراً في المجالات التقنية والاجتماعية والثقافية. لا يسعنا الاكتفاء بهذا التقدم. فلا بد من أن يصحبه تقدم أخلاقي كالاهتمام بالعائلة وحمايتها ومساعدتها لأن المحبة السخية التي لا تنفصم بين رجل وامرأة هي الإطار الفعال والأساسي للحياة البشرية في الحمل بها وولادتها ونموها حتى نهايتها الطبيعية. فقط حيث توجد المحبة والأمانة، تولد الحرية الفعلية وتدوم. إذاً، تطلب الكنيسة إجراءات اقتصادية واجتماعية ملائمة لكي تتمكن المرأة من تحقيق ذاتها بالكامل في المنزل وفي العمل، ولكي يحظى الرجل والمرأة اللذين يتحدان في الزواج ويشكلان عائلة بدعم من الدولة، ولكي يتم الدفاع عن حياة الأطفال منذ الحمل بها كأمر مقدس ومصون، ولكي يحترم واقع الولادة ويثمن ويحظى بالدعم على المستوى القانوني، الاجتماعي والتشريعي. لذلك، تعارض الكنيسة كافة أشكال رفض الحياة البشرية وتدعم ما يعزز النظام الطبيعي في إطار المؤسسة العائلية.
من خلال التأمل بإعجاب بهذه المساحة المقدسة المتسمة بجمال آسر وتاريخ زاخر بالإيمان، أسأل الله أن يتكاثر ويتقوى في هذه الأرض الكاتالونية شهود جدد للقداسة، شهود يقدمون للعالم الخدمة الكبيرة التي تستطيع الكنيسة أن تقدمها للبشرية ويجب أن تقدمها لها: أن تكون صورة عن الجمال الإلهي، شعلة ملتهبة من المحبة، وقناة لكي يؤمن العالم بمن أرسله الله (يو 6، 29).
إخوتي الأحباء، إني إذ أكرس هذه الكنيسة الرائعة، أسأل رب حياتنا أن يفيض نبع من النعمة والمحبة على مدينة برشلونة وسكانها وعلى العالم أجمع، انطلاقاً من هذا المذبح الذي سيدهن بالزيت المقدس والذي ستبذل عليه تضحية محبة المسيح. ولتملأ هذه المياه الغزيرة هذه الكنيسة المنتمية إلى الأسقفية ورعاتها ومؤمنيها بالإيمان والحيوية الرسولية.
وقال بالكاتالونية:
ختاماً أود أن أوكلكم جميعاً أنتم الحاضرين هنا وجميع الذين ساعدوا في تحقيق هذه المعجزة المعمارية بالأقوال والأفعال، في الصمت أو الصلاة، إلى حماية أم الله، مريم الكلية القداسة، وردة نيسان، وأم الرحمة. ولتقدم أيضاً لابنها الإلهي أفراح وآلام الذين سيأتون في المستقبل إلى هذا المكان المقدس، لكيما بحسب ليتورجيا تكريس الكنائس يجد الفقراء الرحمة، وينال المضطهدون الحرية الحقيقية، ويتخذ جميع البشر كرامة أبناء الله. آمين.
نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010