القديسة كاترينا السيينية
روما، الخميس 25 نوفمبر 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه البابا بندكتس السادس عشر يوم أمس الأربعاء خلال المقابلة العامة في قاعة بولس السادس.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
أود اليوم أن أتحدث إليكم عن امرأة أدت دوراً بارزاً في تاريخ الكنيسة. إنها القديسة كاترينا السيينية. القرن الذي عاشت فيه – الرابع عشر – كان عصر اضطرابات لحياة الكنيسة ولكل النسيج الاجتماعي في إيطاليا وأوروبا. مع ذلك، وحتى في حقبات الصعوبات الكبيرة، لا يتوقف الرب عن مباركة شعبه، وإظهار قديسين وقديسات يحركون الأذهان والقلوب محدثين الاهتداء والتجدد. كاترينا هي إحداهم وهي تتحدث إلينا اليوم أيضاً وتدفعنا إلى السير بشجاعة نحو القداسة لنكون على نحو أكمل تلاميذ الرب.
ولدت في سيينا سنة 1347 في عائلة كبيرة من حيث العدد وتوفيت في مدينتها مسقط رأسها سنة 1380. في السادسة عشرة من عمرها، وبفعل رؤيا للقديس دومينيك، دخلت إلى الرهبنة الثالثة الدومينيكية، إلى القسم النسائي المعروف بقسم Mantellate. خلال بقائها مع عائلتها، أكدت نذر البتولة الذي نذرته سراً فيما كانت لا تزال مراهقة، وكرست ذاتها للصلاة والتكفير وأفعال المحبة بخاصة تجاه المرضى.
عندما ذاع صيت قداستها، كانت المحركة الأولى لنشاط مكثف من المشورة الروحية التي شملت جميع فئات الناس: النبلاء ورجال السياسة، الفنانين وعامة الشعب، المكرسين، والكهنة بما فيهم البابا غريغوريوس الحادي عشر الذي كان يقيم آنذاك في أفينيون، والذي حثته كاترينا بعزم وفعالية على العودة إلى روما. سافرت كثيراً لالتماس الإصلاح الداخلي للكنيسة وتعزيز السلام بين الدول. ولهذا السبب أيضاً، أراد الموقر يوحنا بولس الثاني إعلانها إحدى شفعاء أوروبا، لكي لا تنسى القارة القديمة الجذور المسيحية التي تشكل أساس دربها، ولكي تستمر في غرف القيم الأساسية الضامنة للعدالة والوئام من الإنجيل.
لقد عانت كاترينا كثيراً كالعديد من القديسين. واعتقد البعض أنه كان ينبغي الحذر منها لدرجة أن رهبنة الدومينيكان العامة استدعتها إلى فلورنسا لاستجوابها وذلك سنة 1374 أي قبل وفاتها بست سنوات. عُين لها أخ مثقف ومتواضع هو رايموندو من كابوا، رئيس عام الرهبنة المستقبلي. وبعد أن أصبح معرفها و"ابنها الروحي"، كتب أول سيرة كاملة عن حياتها. وأعلنت قديسة سنة 1461.
تعلمت كاترينا القراءة في ظل صعوبات عديدة والكتابة عندما كانت راشدة. وتوجد عقيدتها في حوار العناية الإلهية أو كتاب العقيدة الإلهية، إحدى روائع الأدب الروحي، وفي رسائلها ومجموعة الصلوات. يحتوي تعليمها على ثروة كبيرة دفعت خادم الله بولس السادس إلى إعلانها سنة 1970 ملفانة في الكنيسة، هذا اللقب الذي أضيف إلى لقبها كإحدى شفعاء مدينة روما بقرار من الطوباوي بيوس التاسع، وكشفيعة إيطاليا بقرار من الموقر بيوس الثاني عشر.
في رؤيا لم تمّح أبداً من قلب كاترينا وذهنها، قدمتها العذراء ليسوع الذي أعطاها خاتماً رائعاً قائلاً لها: "أنا، خالقك ومخلصك، أتزوجك في الإيمان الذي ستحافظين دوماً على نقاوته حتى تحتفلين معي بعرسك الأبدي" (رايموندو من كابوا، القديسة كاترينا السيينية، Legenda maior، رقم 115، سيينا، 1998). وكان هذا الخاتم ظاهراً لها وحدها. في هذا الفصل الاستثنائي، ندرك المعنى الحيوي لتديّن كاترينا ولكل روحانية حقيقية: محورية المسيح. فالمسيح هو بالنسبة إليها كزوج تربطها به علاقة مودة وشركة وإخلاص؛ هو الخير المحبوب أكثر من كل خير آخر.
هذا الاتحاد العميق مع الرب يظهر من خلال فصل آخر في حياة هذه المتصوفة البارزة: تبادل القلب. وفقاً لرايموندو من كابوا الذي نقل الأسرار التي تلقاها من كاترينا، فإن الرب يسوع ظهر لها حاملاً في يده قلباً بشرياً أحمر مشعاً، ففتح صدرها ووضعه فيه قائلاً: "ابنتي العزيزة، مثلما أخذت في ذلك اليوم القلب الذي قدمته لي، ها إني الآن أقدم لك قلبي الذي سيحل من الآن فصاعداً محل قلبك" (المرجع عينه). لقد عاشت كاترينا بحق كلمات القديس بولس: "فيما بعد لا أحيا أنا بل المسيح يحيا في" (غل 2، 20).
على مثال القديسة السيينية، يشعر كل مؤمن بالحاجة إلى التشابه مع مشاعر قلب المسيح ليحب الله وقريبه، كما يحب المسيح بنفسه. ونستطيع جميعاً أن نسمح لقلبنا بالتبدل وأن نتعلم أن نحب كالمسيح، في ألفة معه تتغذى بالصلاة والتأمل في كلمة الله والأسرار، بخاصة من خلال تناول القربان المقدس بكثرة وبتفان. كاترينا تنتمي هي أيضاً إلى جماعة قديسي القربان الذين أردت أن أختتم بهم إرشادي الرسولي "سر المحبة، Sacramentum caritatis" (رقم 94). أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن سر القربان المقدس هو هبة محبة استثنائية يجددها لنا الله بلا انقطاع لتغذية درب إيماننا، وتعزيز رجائنا، وزيادة محبتنا، لنشبهه أكثر فأكثر.
حول شخصية قوية وحقيقية، بدأت تتشكل عائلة روحية فعلية. فتأسست مجموعة من الأشخاص الذين افتتنوا بالسلطة المعنوية لهذه المرأة الشابة التي بلغت حياتها مستوى في غاية السمو، والذين تأثروا أحياناً بالظواهر الصوفية التي كانوا يعاينونها كالانخطافات المتكررة. كثيرون وضعوا أنفسهم في خدمتها، واعتبروا أن السير وفقاً لإرشاد كاترينا الروحي هو امتياز. وكانوا يسمونها "أمنا" لأنهم كأبناء روحيين كانوا يستمدون منها غذاء الروح.
اليوم أيضاً، تستفيد الكنيسة بشدة من ممارسة الأمومة الروحية للعديد من النساء المكرسات والعلمانيات ال لواتي يغذين في الأرواح فكر الله، ويرسخن إيمان الناس، ويوجهن الحياة المسيحية نحو قمم أعلى. تكتب كاترينا إلى الراهب جوفاني ساباتيني، أحد أبنائها الروحيين: "إبني أقول لك وأدعوك، نظراً إلى أنني ألدك من خلال صلوات وأمنيات لا تنقطع في حضرة الله، كما تلد أم ابنها" (مجموعة رسائل، الرسالة رقم 141: إلى دون جوفاني ساباتيني). وكانت تخاطب الأخ الدومينيكي بارتولوميو دي دومينيتشي بهذه الكلمات: "أخي وابني الحبيب والعزيز في يسوع المسيح العذب".
إن إحدى السمات الأخرى في روحانية كاترينا هي مرتبطة بهبة الدموع. فهذه الأخيرة تعبر عن إحساس شديد وعميق، عن القدرة على التأثر والشعور بالحنان. كثيرون هم القديسون الذين نالوا هبة الدموع، مجددين انفعال يسوع نفسه الذي لم يحبس ويخبئ دموعه أمام قبر صديقه لعازر وألم مريم ومرتا، وعند رؤية أورشليم خلال أيامه الأخيرة على الأرض. ووفقاً لكاترينا، فإن دموع القديسين تمتزج بدماء المسيح التي تحدثت عنها بنبرة مؤثرة وصور رمزية بليغة: "تذكروا المسيح المصلوب، الإله والإنسان (...) اتخذوا كهدف لكم المسيح المصلوب، اختبئوا في جراح المسيح المصلوب، واغرقوا في دماء المسيح المصلوب" (مجموعة رسائل، الرسالة رقم 16، إلى شخص لا يُذكر اسمه).
نستطيع هنا أن نفهم السبب الذي لطالما دفع كاترينا المدركة لأخطاء الكهنة البشرية إلى الشعور باحترام كبير تجاههم. فمن خلال الأسرار والكلمة، ينشر هؤلاء القدرة الخلاصية لدماء المسيح. ولطالما دعت قديسة سيينا الخدام المقدسين، والبابا الذي كانت تسميه "مسيح الأرض العذب" إلى أن يكونوا أمناء لمسؤولياتهم، وذلك فقط ودوماً بدافع محبتها العميقة والثابتة للكنيسة. قبل وفاتها، قالت: "فيما أترك جسدي، فقد قضيت وقدمت حياتي في الكنيسة ومن أجل الكنيسة المقدسة، الأمر الذي أعتبره نعمة استثنائية" (رايموندو من كابوا، القديسة كاترينا السيينية، Legenda maior، رقم 363).
نتعلم إذاً من القديسة كاترينا العلم الأسمى وهو التعرف إلى يسوع المسيح وكنيسته ومحبتهما. في حوار العناية الإلهية، ومن خلال صورة فريدة من نوعها، تصف المسيح كجسر بين السماء والأرض. هذا الجسر يتألف من ثلاث درجات تشكلها رجلا يسوع وجنبه وفمه. خلال السمو بفضل هذه الدرجات، تنتقل الروح عبر المراحل الثلاث لكل درب تقديس: الابتعاد عن الخطيئة، ممارسة الفضائل والمحبة، والاتحاد العذب والمحب مع الله.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فلنتعلم من القديسة كاترينا أن نحب المسيح والكنيسة بشجاعة وبشكل عظيم وصادق. إذاً، فلنتخذ نحن أيضاً كلمات القديسة كاترينا التي نقرأها في حوار العناية الإلهية، في ختام الفصل المتعلق بالمسيح – الجسر: "برحمة، غسلتنا في الدماء، برحمة، أردت التحدث إلى المخلوقات. يا مجنون المحبة! لم تكتف بالتجسد بل أردت الموت أيضاً! (...) أيها الرحيم! قلبي يستغرق في التفكير بك: لأنني حيثما أستدير، لا أجد سوى الرحمة" (الفصل 30). شكراً.
نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010