مثل ألعازر والغني

(لوقا 16، 19-31)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

للأب الياس شخطورة الأنطوني
روما، الاثنين 13 فبراير 2012 (ZENIT.org). – بينما يتوجه يسوع بالأمثال عن الخروف الضائع، الدينار المفقود والإبن الضال في الفصل الخامس عشر من انجيل لوقا، الى الفريسيين والكتبة، لحضهم على قبول الخطأة والإحسان اليهم، يظهر جلياً بأن تعليمه في الفصل السادس عشر يأخذ مسارا آخر وبطريقة مباشرة نحو رسله، والمتمحور حول مفهوم الغنى، وكيفية إستعمال المال وحسن إدارته، والأمانة لما يوكَلون إليه، مختتِماً حديثه بمثل ألعازر والغني. غاية المسيح من جملة هذا التعليم ما هي إلا توضيح موقفِ كلِّ إنسان في حضرة الله ومكانتِه بمقياس أعمالِهِ وحُسنِ تصرفِه. مثل ألعازر والغني يحمل الخوف والحيرة الى ضمائر وقلوب الكثيرين منا لدى سماعنا إياه، فهو يدفعنا، أقلّه مرةً  في السنة، لأن نعيرَ انتباهنا الى الحالة التي سنمثل فيها يوماً ما أمام الله العلي والقدير؛ مثلٌ يدق ناقوس الخطر كل مرة نسمع فيها أنين الغني في قعر الجحيم راجياً إبراهيم بأن يرأف، ليس فقط به، إنما أيضا بإخوته في الحياة الدنيوية، كيما يبلغوا الحالة المذرية التي وصل إليها نتيجة سوء المعاملة والتصرف تجاه ذاته والآخرين.
في سرده لمثل إنجيل اليوم، يستعين يسوع ببعض الصور لتبيان حالة الملكوت، الحالة الملائكية التي بلغ ألعازر ذروتَها، كقوله “حضن إبراهيم” موقع الشرف والرقي، وحالة الجحيم “الهوة العظيمة”، حيث لا أثر للرحمة والحب؛ صورتان تتخطّيان حدود الرمزية، بهدف تصوير الواقع الفعلي للغني وللفقير معاً في هذه الحياة وفي الآخرة. يكفينا قراءة الآيات من 19 الى 22 التي تعكس وقائع فعلية للحياة الدنيوية حتى لحظة الموت والوري في الثرى، وكأنّه بذلك يُسدَلُ ستار الحياة على أنظارنا وتنتهي مسيرةُ غنيٍّ وفقير، ألا وهي الحدود التي يُسمح فيها لمعرفتنا العقلية ببلوغها، نقطة اللاعودة، لتعودَ فجأةً فتظهرُ الحياةُ بحلةٍ جديدة ويُرفع الستار وندخل في حالةٍ فريدةٍ من نوعها، بعيدةً كلَّ البعد عن مخيلتنا، فيولدُ حوارٌُ وتُتابع المسيرة، ولكن هذه المرة مع انقلابٍ في الأدوار: فالغني الذي كان يتنعم بالحياة على الأرض، بملاذاتها، كِتّانِها وارجوانِها، أصبح فيما بعد في قعرٍ، حيث يتآكله اللهيب ويتألم من شدة عذابه، متعطشاً الى نقطة ماء، رمز الحياة الأبدية، علّها تُبرّد طَرْف لسانه لتحسِّسَهُ ولو لبرهةٍ من الزمن بالحياة الأولى؛ بينما ألعازر الفقير، الذي كانت ألسنة الكلاب تُلطِّف قروحَ جسدِه، مشتهياً أن يأكل من الفتات المتساقط من مائدة الغني، ها هو متنعماً في” حضن ابراهيم”، يُملي بنظره من فوق الى عمق هوة الجحيم، دون التلفظ ولا التوجه بأدنى كلمة نحو الغني، كما في الحياة الأولى، إذ أصبح هو بذاته الغنيُ والمكتفي بربِّه المتكلم عنه والمطالِب بحقّه.
في حياته الدنيوية لم يُظهر ألعازر أي حسد أو غيرة تجاه مقتنيات الغني وعيشه للترف، ولم يطلب مقاسمتَه لفرحه ولا حتى بالقليل ممّا يملكه، إنما ما يرمى فقط خارجاً من فتات المتساقط من مائدته؛ أما الغني وفي عمق ألمه وندامته، إشتهى نقطة ماء من إصبع العازر، أي لحظة من فرحه ونعيمه الابدي، مُظهراً غَيرته وحاجته للغبطة التي لا يمكنه الحصول عليها بعد الآن، إن بسبب أنانيته في حياته الأولى وإن لِعُمق الهوة التي تفصله عن ألعازر. هاتين الحالتين المتناقضتين لا تشملان عامةً كل غني وفقير، بمعنى أنهما لا تشكلان الضمان لكل فقير بالحصول على الملكوت ولا تبرهن على ان كلَّ غني مصيرُه الجحيم،  ولكن ما  يريد قوله يسوع هو أن الغني لم يعرف كيفية التصرف بغناه ولم يكن حَذقاً مثل الوكيل الخائن الذي استعاد ثقة سيده وكل من تعامل معه (لوقا 16، 1-8). فكل ما اقتناه لم يُجدِ استعماله في موضعه، بل صبّه في خانة الأنانية والمصلحة الشخصية، وترك للمستقبل أن يُمهِّدَ طريقه دون الاستعانة بالبعد الفكري والتخطيط لما يحمله له من عواقب وخيمة. الله لا يُبغض الغني ولا يقلل من الإهتمام به، إنما يلوم ويعاقب في الحياة الاخرى كلَّ غني بالأنانية وحب الذات، الذي لم يعطِ مما وهبه الله إياه من نعَمٍ ولم يشارك به من هم بحاجة. فالغني لم يكترث إلا للحاضر ولم يُعِرْ أي أهمية للمستقبل لأن ملكوت الله لا مكانة له في حياته.
ما يلفت انتباهنا في حديث ابراهيم مع الغني هو غياب المساومة مع لله في العالم الثاني، “الله يُمهل ولا يهمل” فقط في هذه الدنيا وليس في الآخرة، رحمتُه تشمل كلَّ حيٍّ على هذه الأرض لتساعده بقدر ما يشاء، على التقرب منه بالترفع عن الملذات الدنيوية واستعمالها دون الخضوع لها، لضمان الملكوت السماوي حيث لا فناء لملذاته اللاموصوفة وللنعيم الأبدي.
يتوجه الينا الرب اليوم ودائما، بكلامه وتعليمه، على لسان الأباء والأنبياء والملوك وبشخص ابنه يسوع المسيح المنتصر أبداً على الموت. فكل من يبتعد عن كلامه الخلاصي يرث العذاب الأبدي بتبنيّه أفعال الشر، أما “من يَصبرُ الى المنتهى، يخلص”، مَبنيّاً رجاءه على الرحمة الإلهية، متوشحاً بوصايا الرب وممتلأً غَيرة من تعليم المسيح. دعوة يسوع لنا تكمن في قراءة الكتب المقدسة والإصغاء الى كلامه فيها والتمعن في أحداثها الخلاصية، كي يتمّ اللقاء الُمنتظر بالثالوث الأقدس بدءً من عيش الكلمة والإغتناء بتجسدها والتنعم بخلاصها الأبدي.    

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير