روما، الخميس 16 فبراير 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس في الفاتيكان، نهار الأربعاء 15 فبراير 2012.
* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
تحدثتُ خلال تعليم الأربعاء الماضي عن صلاة المسيح المحتضر للمزمور 22: “إلهي، إلهي لماذا تركتني؟”. واليوم أرغب باستكمال التأمل حول صلاة يسوع على الصليب في مواجهة موته الوشيك، كما أرغب التوقف عند النص بحسب إنجيل القديس لوقا.
نقل لنا لوقا الإنجيلي ثلاث كلمات ليسوع على الصليب، الأولى والثالثة يوجههما يسوع إلى الآب، أمّا الثانية فهي الوعد الذي قطعه للص اليمين الذي صُلب معه. إنّ المسيح إذ استجاب لصلاة لص اليمين طمأنه قائلاً: “الحق أقول لك: ستكون اليوم معي في الفردوس” (لو 23، 43). وفي إنجيل لوقا، إنّ كلّاً من الصلاتين اللتين يوجّههما يسوع المحتضر إلى أبيه السماوي ترتبطان إيحائياً بقبول دعاء اللص التائب. وهنا نرى يسوع يستدعي الآب ويصغي في الوقت عينه إلى صلاة هذا الرجل الذي غالباً ما نسمّيه latro poenitens أي “اللص التائب”.
فلنتوقف عند صلوات يسوع الثلاثة. الأولى يتلوها يسوع مباشرة بعد تسميره على الصليب، في حين كان الجنود يقترعون على ثيابه، كمكأفاة بائسة لخدماتهم. وبطريقة ما، يختتم هذا التصرّف عملية الصلب. يكتب القديس لوقا: “ولمّا وصلوا إلى المكان المعروف بالجمجمة، صلبوه فيه والمجرمين، أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال. فقال يسوع: “يا أبت اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون”. ثم اقتسموا ثيابه مقترعين عليها” (لو 23، 33- 34).
الصلاة الأولى التي يرفعها يسوع إلى الآب هي تشفّع يطلب فيه المغفرة لجلاديه، وبهذا يتمّم ما علّمه في عظة الجبل حين قال: “وأما أنتم أيها السامعون، فأقول لكم: أّحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم” (لو 6، 27). وهي أيضاً وعد للذين يغفرون: “سيكون أجركم عظيماً وتكونون أبناء العلي” (لوقا 6، 35). فهو الآن، ومن على الصليب لا يسامح جلاديه فحسب، بل يتشفّع لهم عند الآب. ونجد في تصرف يسوع هذا “محاكاة” مؤثرة لموقف القديس إسطفانس أول الشهداء فيما كان يتعرّض للرجم. وفيما اقتربت النهاية، “جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: “يا رب لا تُقم لهم هذه الخطية”، وما إن قال هذا حتى رقد.” (أع 7، 60): هذه كانت كلماته الأخيرة. والمقارنة بين صلاة الغفران التي تلاها يسوع وتلك التي تلاها كبير الشهداء القديس إسطفانس هي مهمّة وجوهرية. فالقديس إسطفانس توجّه إلى الرب القائم من بين الأموات طالباً ألّا تُحتَسب جريمة قتله- والتي يتمّ تعريفها على هذا النحو من خلال عبارة “إثم”- على من قاموا برجمه. ويسوع على الصليب لا يتوجّه بطلب الغفران لصالبيه من الآب فحسب، بل يقدّم أيضاً قراءة لما يدور من أحداث. فبحسب كلمات يسوع نفسه، إنّ الذين صلبوه “لا يدرون ما يفعلون” (لو 23، 24). فالسبب الذي يستشهد به لطلب صفح الآب عمّن صلبوه هو “الجهل”، و”عدم المعرفة”، لأنّ هذا الجهل يترك طريق التوبة مفتوحاً، تماماً كما حدث مع قائد المئة الذي شهد عند موت يسوع قائلاً: “حقاً كان هذا الرجل بارّاً” (لوقا 23، 47)؛ كان ابن الله.
“إنّها تعزية للأزمنة كلّها والبشرية كلّها، ولجميع من يجهلون- أي الجلادين، وجميع الذين يعرفون- أي الذين أدانوه، أن يُقيم الربّ جهلهم أساساً لطلب المغفرة لهم. فهو يعتبره باباً يفتح أمامنا طريق التوبة” (Jésus de Nazareth، 2، 239).
وصلاة يسوع الثانية على الصليب كما ينقلها لنا القديس لوقا هي كلمة رجاء واستجابة لصلاة أحد الرجلين المصلوبَين معه. فأمام يسوع، عاد لص اليمين إلى نفسه وتاب، وأدرك أنّه أمام ابن الله الذي يتجلّى من خلاله وجه الله نفسه، فيصلي قائلاً: “أذكرني يا يسوع إذا ما جئت في ملكوتك” (لو 23، 42). ويتخطّى جواب الرب على هذه الصلاة بُعدَ الطلب، إذ يقول له: “الحق أقول لك: ستكون اليوم معي في الفردوس” (لو 23، 43). فيسوع يدرك جيداً أنّه يدخُل مباشرة في شراكة مع الآب، وأنّه يفتح أمام هذا الرجل الطريق لدخول ملكوت الله. إنّه ومن خلال جوابه هذا، يمنح الرجاء الذي لا يُخيّب بأنّ صلاح الله يمكن أن يلمسنا حتّى اللحظة الأخيرة من حياتنا، ويؤكّد لنا أنّ الصلاة الصادقة، ولو بعد حياة آثمة، تلقى ذراعَي الآب الصالح المفتوحتَين بانتظار عودة الابن.
ولكن لنتوقف عند كلمات يسوع الأخيرة لحظة موته. يخبرنا الإنجيلي: “وكانت الساعة نحو الظهر، فخيم الظلام على الأرض كلها حتى الثالثة، لأن الشمس قد احتجبت. وانشق حجاب المقدس من الوسط. فصاح يسوع بأعلى صوته قال: يا أبت، في يديك أجعل روحي! قال هذا ولفظ الروح.” (لو 23، 44-46).
ونلاحظ أنّ بعض جوانب هذا النص تختلف عن المشهد الذي ينقله لنا القديسان مرقس ومتى. فلوقا لا يذكر ساعات الظلمة الثلاثة التي يصفها مرقس، كما أنّ هذه الظلمة ترتبط في إنجيل متى بسلسلة من الأحداث الرؤيوية الرهيبة مثل الزلازل وتفتّح القبور وقيامة الموتى” (راجع مت 27، 51- 53). أمّا عند لوقا، فترتبط ساعات الظلمة بكسوف الشمس، وإنّها بالتحديد اللحظة التي ينشقّ فيها حجاب الهيكل. هنا يقدّم لوقا الإنجيلي في نصّه علامتين في السماء كما في الهيكل تتوازيان بطريقة ما. فالسماء تفقد نورها، والأرض تتزلزل. أمّا الهيكل مكان حضور الله، فينشقّ الحجاب الذي يحميه.
موت يسوع يتميّز بكلّ وضوح بكونه حدثاً كونياً وليتورجياً، وهو يُعلن بالتحديد بدء كنيسة جديدة في هيكل لم يبنِه البشر، لأنّ جسد المسيح المائت والقائم من بين الأموات هو ما يجمع الشعوب ويوحّدها في سرّ جسده ودمه.
وخلال لحظ
ة الألم هذه، تأتي صلاة يسوع- “يا أبتِ، في يديك أجعل روحي”- كصرخة استسلام عظيم وكامل للآب. وتعبّر صرخته هذه دليلاً على إدراكه الكامل لعدم تخلي الآب عنه. فالتضرع الأول- “أبتِ”- يذكّر بإعلانه الأوّل حين كان في سنّ الثانية عشر، حين كان قد أمضى ثلاثة أيام في هيكل أورشليم الذي نشهد الآن انشقاق حجابه، وحين قال لأمّه وأبيه القلقَين: “ولم بحثتما عنّي؟ ألم تعلما أنّه يجب علي أن أكون عند أبي؟” (لو 2، 49). فمنذ البداية وحتى النهاية، إنّ علاقة يسوع الفريدة بالآب هي ما حدّد بالكامل مشاعره وكلماته وأفعاله. وإنّه على خشبة الصليب عاش بغمر من الحب ملءَ هذه العلاقة البنوية مع الآب، والتي تحيي صلاته.
الكلمات التي قالها يسوع بعد استدعاء “الآب” تذكّرنا بالمزمور 31: ” في يديك أجعل روحي!” (مز 31، 6). ولكنّ هذه الكلمات ليست مجرّد استشهاد، بل إنّها دليل على قرار حاسم: يسوع “يسلّم ذاته” إلى الآب بفعل الاستسلام الكامل. فكلماته هي صلاة “تسليم الذات” بملء الثقة بحب الله. صلاة يسوع في مواجهة الموت هي مأساوية كما هي الحال بالنسبة إلى أي إنسان، ولكن في الوقت نفسه، يسكنُها هدوء عميق يأتي من الثقة بالآب وبإرادة التسليم المطلق له. فحين دخل المسيح في بستان الزيتون مرحلة النزاع الأخير والصلاة الأعمق لأنّه كان “سيسلم إلى أيدي البشر” ( لو 22، 44)، “صار عرقه كقطرات دم متخثر تتساقط على الأرض” ( لو 22، 44). ولكنّ قلبه كان في ملء الطاعة لمشيئة الآب، لذا فقد “تراءى له ملاك من السماء يشدد عزيمته” (راجع لو 22، 42- 43).
وفي هذه اللحظات الأخيرة، يتوجّه يسوع إلى الآب معرّفاً إيّانا على حقيقة هاتين اليدين اللتين يسلّم إليهما كاملَ وجودِه. وقبل المضي إلى أورشليم، كان يسوع قد شدّد على تلاميذه قائلاً: “اجعلوا أنتم هذا الكلام في مسامعكم: إن ابن الإنسان سيسلم إلى أيدي البشر” ( لو 9، 44).
والآن، في حين توشك الحياة على مفارقته، يختتم يسوع صلاته بقراره النهائي: تسليم ذاته “إلى أيدي البشر”؛ أمّا روحه، فأودعها بين يدي الآب. وهكذا، كما يقول القديس يوحنا، تمّ كلّ شيء، فعل الحب الأسمى الذي بلغ نهايته، حدّه الأقصى، لا بل إلى أبعد من ذاك الحد الأقصى.
إخوتي واخواتي، إنّ كلمات يسوع على الصليب خلال لحظات حياته الأرضية الأخيرة تحمل لنا تعليمات صارمة توجّه صلواتنا، ولكنّها تفتح في المقابل الطريق أمام الثقة المطمئِنة والرجاء الثابت. ويسوع الذي يدعو الآب إلى المغفرة للذين صلبوه يدعونا إلى القيام باللفتة الصعبة التي تتجلى في الصلاة من أجل من يخطئون إلينا أيضاً، والذين جرحونا، كما يدعونا إلى أن نغفر دائماً للآخرين سامحين لنور الله أن يجد طريقه إلى قلوب هؤلاء وينيرها. كذلك يدعونا إلى أن نعيش في صلواتنا لفتة الرحمة والحب نفسها التي يظهرها الله لنا:”واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن خطئ إلينا”، كما نردد كلّ يوم في صلاة “الأبانا”.
وإنّ يسوع، في لحظة إشرافه على الموت، وضع ذاته بكليتها بين يدي الله الآب؛ وهو بذلك يزوّدنا باليقين بأنّ، مهما اشتدّت المحن وطالت مدتها، ومهما صعُبَت مشاكلنا، فإنّنا لن نقع أبداً إلّا بين يدي الله، هاتين اليدين اللتين خلقتانا واللتين تدعماننا وترافقاننا على درب الحياة لأنّهما تسترشدان بحبّ صادق ولامحدود. وشكراً.
* * *
نقلته من الفرنسية إلى العربية كريستل روحانا – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية