تعليم البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة بتاريخ 7 مارس 2012

صمت الله لا يعني غيابه

Share this Entry

روما، الخميس 8 مارس 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس في الفاتيكان، نهار الأربعاء 7 مارس 2012.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
تحدثت في سلسلة التعاليم السابقة عن صلاة يسوع، وإنّي لا أرغب في اختتام هذا التأمل من دون التوقف بإيجاز عند موضوع صمت يسوع المهمّ جداً في إطار علاقتنا بالرب.
كنتُ قد أشرت في الإرشاد الرسولي “كلمة الرب” الذي عقب السينودس إلى دور الصمت في حياة المسيح، ولا سيّما في الجلجلة: “هنا نجد أنفسنا أمام “لغة الصليب” (1 كو 1، 18). تصمت الكلمة، وتصبحُ صمتَ الموت، لأنّ المسيح “قال” عن ذاته كلّ شيء حتى الصمت، غير محتفظ  بأيّ ممّا كان عليه قوله” (رقم 12).
وأمام صمت الصليب هذا، يضع القديس مكسيموس المعترف على لسان والدة الله هذه الكلمات المؤثرة: “كلمة الآب هي الآن من دون كلام؛ الكلمة التي خَلقت كلّ الطبيعة المتكلّمة هي من دون حركة؛ عينا ذاك الذي بكلمته وبحركته كلّ شيء تحرّك ويتحرّك هما الآن منطفئتان”. (حياة القديسة مريم، رقم 89، نصوص مريمية من الألفية الأولى، 2).
إنّ صليب المسيح لا يُظهر صمت يسوع ككلمة أخيرة وجّهها إلى الآب فحسب، بل إنّه تأكيد على أنّ الله يتكلّم من خلال الصمت: صمت الله، وتجربة الابتعاد الآب القدير هي نقطة مفصلية في رحلة ابن الله والكلمة المتجدسّة على الأرض. فحين كان يسوع معلقاً على خشبة الصليب، صرخ صرخة تعبّر عن ألمه من هذا الصمت: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (مر 15، 34؛ مت 27، 46). ولكنّ يسوع ثابر على الطاعة حتّى النفس الأخير، وفي ظلمة الموت الحالكة، مستدعياً الآب السماوي. وقد استودع يسوع نفسه بين يين يدي الآب لحظة العبور عبر بوابة الموت إلى الحياة الأبدية: “يا أبت، في يديك أجعل روحي” (لو 23، 46) (الإرشاد الرسولي “كلمة الرب”، رقم 21). إنّ تجربة المسيح على الصليب تُظهر عمق حالة الإنسان الذي يصلي، وتشير إلى بلوغ قمة الصلاة: فبعد الإصغاء إلى كلمة الله والاعتراف بها، يجب أن نقيس أنفسنا أيضاً بصمت الله الذي يشكّل تعبيراً مهماً عن الكلمة الإلهية نفسها.

إنّ التبادل بين الكلمة والصمت الذي يطبع صلاة يسوع طوال حياته الأرضية يلمس أيضاً حياة الصلاة التي نعيشها، وذلك في اتجاهين، أوّلهما يتعلق باستقبال كلمة الله. فالصمت الداخلي والخارجي ضروريان كي نتمكّن من سماع هذه الكلمة. وهذه النقطة صعبة بصورة استثنائية بالنسبة إلينا في أيامنا هذه. فإنّنا نعيش في زمن لا يعزّز حالة التأمل، بل إنّنا وعلى العكس نشعر بخوف من التشتت والانفصال، حتى ولو لوهلة، عن دفق الكلمات والصور الذي يطبع أيامنا ويملؤها. هذا هو السبب الذي دفعني إلى أن أذكّر في الإرشاد الرسولي “إعلان البشارة” بضرورة أن نتعلّم قيمة الصمت: “إنّ إعادة اكتشاف الطابع المحوري لكلمة الله في حياة الكنيسة تعني إعادة اكتشاف معنى التأمل والسلام الداخلي.
يعلّمنا التقليد البابوي الكبير أنّ أسرار المسيح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصمت. فبه وحده تسكن كلمة الله فينا، كما سكنت في مريم التي هي، وبشكل غير قابل للانفصال، امرأة الكلمة والصمت” (رقم 66). والمبدأ الذي يقول أنّ بدون الصمت لا يمكننا أن نسمع الكلمة ونصغي إليها ونقبلها ينطبق بشكل خاص على صلاتنا الشخصية وكذلك على صلواتنا الليتورجية: فلِتسهيل الإصغاء الحقيقي، يجب أن تكون هذه الصلوات مفعمة بلحظات الصمت والقبول غير الكلامي. ولا تزال هذه الملاحظة الرائعة للقديس أغسطينوس صالحة حتى اليوم: “Verbo crescente, verba deficiunt”، أي “عندما تظهر الكلمة، تصمت الكلمات” (راجع Sermo 288, 5 : PL 38, 1307 ; Sermo 120, 2 : PL 38, 677 ).
وغالباً ما تُظهر الأناجيل يسوع المسيح ينسحب وخصوصاً في الأوقات الحاسمة إلى مكان بعيد عن الحشود والتلاميذ، كي يصلي بصمت ويعيش علاقته البنوية مع الله. فالصمت قادر على حفر فسحة داخلية في عمق أعماقنا تكون مسكناً لله، كي تثبت كلمته فينا ويتجذّر حبّنا له في روحنا كما في قلبنا، فيُنعش حياتنا. هذا هو إذاً الاتجاه الأوّل: أن نتعلّم الصمت، وننفتح على الإصغاء، كي نتمكن من الانفتاح على الآخر، وعلى كلمة الله.
ولكن ثمّة علاقة ثانية ومهمة تربط بين الصمت والصلاة. في الواقع، ليس الصمت وحده هو ما يساعدنا على الإصغاء إلى كلمة الله، فإنّنا حين نصلي، غالباً ما نجد أنفسنا في صمت الله، فنشعر بنوع من التخلي، ويبدو لنا وكأنّ الله لا يسمعنا ولا يستجيب لنا. ولكنّ صمت الله هذا يشبه صمت الآب تجاه يسوع، وهو ليس بالتالي علامة غيابه. فالمسيحي يدرك جيداً أنّ الرب حاضر ويصغي، حتى في ظلمة الألم والرفض والوحدة. ويسوع يعطي لتلاميذه ولكلّ منا الضمانة بأنّ الله يعرف تماماً ما هي احتياجاتنا في جميع أوقات حياتنا. وهو يعلّم تلاميذه قائلاً: “وإذا صليتم فلا تكرّروا الكلام عبثا مثل الوثنيين، فهم يظنّون أنّهم إذا أكثروا الكلام يُستجاب لهم. فلا تتشبّهوا بهم، لأنّ أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه”. (مت 6، 7- 8): فالقلب اليقظ والصامت والمنفتح هو أكثر أهمية من كلمات كثيرة. والله يعرفنا معرفة باطنية وعميقة تفوق معرفتنا لأنفسنا، ومعرفتنا لهذه الحقيقة تكفينا.
وفي الكتاب المقدس، تُعتبر تجربة أيوب معبّرة بشكل خاص في هذا الإطار. ففي وقت قصير، فقد هذا الرجل كلّ شيء: أقرباءه وممتلكاته وأصدقاءه وصحته. قد يبدو لنا موقف الله تجاه أيوب نوعاً من التخلي والصمت المطلق. ولكنّنا إذا ما نظنا إلى علاقة أيوب بالرب، نراه يتكلّم معه ويصرخ إليه. فبرغم كلّ شيء، يحافظ أيوب ف
ي صلاته على إيمانٍ قوي، ليكتشف في النهاية قيمة تجربته ومعنى صمت الله. وهكذا، يصل أخيراً إلى استنتاج ويتوجّه إلى الله قائلاً: “كنتُ قد سمعتك سمع الأذن أما الآن فعيني قد رأتك” (أي 42، 5). نحن جميعاً نعرف الله على قدر ما سمعناه سمع الأذن، ولكن كلّما انفتحنا على صمت الله وصمتنا، كلّما اقتربنا من معرفته معرفة حقيقية. وهذه الثقة المطلقة التي تنفتح على اللقاء العميق بالله تنضج في الصمت. وكان القديس فرنسيس سافريوس يصلي إلى الرب قائلاً: “أحبّك ليس لأنّك قادر أن تعطيني السماء أو ترسلني إلى الجحيم، بل أحبّك لأنّك إلهي. أحبّك لما أنت”.
ومع إشرافنا على اختتام هذه التأملات في صلاة المسيح، تتبادر إلى أذهاننا بعض تعاليم الكنيسة الكاثوليكية: “تَظهر لنا أهمية الصلاة بالكامل من خلال الكلمة الذي تجسّد وسكن بيننا”. إنّ السعي لفهم صلاته من خلال ما يعلنه لنا شهوده في الإنجيل يقرّبنا من القدّوس الرب يسوع وكأنّه علّيقة مشتعلة، فنبدأ بالتأمل فيه من خلال الصلاة، ثم نصغي إليه كيف يعلّمنا أن نصلي، حتّى ندرك في نهاية المطاف كيف يستجيب لصلواتنا.” (رقم 2598).
ولكن كيف يعلمنا يسوع الصلاة؟ الجواب الواضح على هذا السؤال نستقيه من موجز التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: “يعلمنا يسوع كيف نصلي ليس فقط من خلال الصلاة الربانية”، التي تشكل وبدون أدنى شك ركيزة لتعليم الصلاة، “بل يعلمنا كيف نصلي حين يصلي هو”. فإنّه وإلى جانب مضمون الصلاة، يعلّمنا الترتيبات اللازمة للصلاة الحقيقية: نقاوة القلب الذي يبحث عن الملكوت ويغفر لجميع الأعداء، والثقة الجريئة والبنوية التي تتخطى حدود ما ندركه ونفهمه، والترقّب الذي يحمي التلميذ من التجارب” (رقم 544).
لقد رأينا من خلال تصفح الأناجيل أنّ الربّ في صلواتنا هو المصغي والصديق والشاهد والمعلّم. وفي يسوع يتجلّى تجديد حوارنا مع الله: إنّها صلاة بنوية ينتظر الله سماعها من أبنائه. ونتعلّم من يسوع كم أنّ الثبات في الصلاة والمثابرة عليها يساعداننا في إجراء قراءة لحياتنا، واتخاذ القرارات، والتعرّف إلى دعوتنا واستقبالها، واكتشاف المواهب التي أنعم بها الله علينا، وإتمام مشيئته في كلّ يوم من حياتنا. هذا هو السبيل الوحيد الذي نحقّق من خلاله وجودنا.
وصلاة يسوع تعلّمنا، نحن المنشغلين دائماً بفاعلية أعمالنا وبتحقيق النتائج الملموسة، أنّنا بحاجة إلى أن نتوقّف ونعيش علاقة شخصية مع الله، “فاصلين أنفسنا” عن الصخب اليومي كي نتمكن من الإصغاء وبلوغ “الجذر” الذي يدعمنا ويغذي حياتنا. وإنّ أكثر اللحظات روعة في صلاة يسوع هي بالتحديد اللحظة التي يتوجّه فيها بالصلاة إلى الآب من أجل التصدي للأمراض والمحن والقيود المفروضة على محاوريه. هكذا يرشد المسيح المحيطين به إلى مصدر الرجاء والخلاص.
لقد سبق وأعطيتُ المثل المؤثّر الذي يتمحور حول صلاة يسوع على قبر لعازر. يروي لنا يوحنا الإنجيلي هذا الحدث: “فرفعوا الحجر ورفع يسوع عينيه وقال: شكراً لك، يا أبت لأنّك استجبت لي، وقد علمت أنّك تستجيب لي دائما أبداً. ولكنّي قلت هذا من أجل الجمع المحيط بي لكي يؤمنوا أنّك أنت أرسلتني. قال هذا ثمّ صاح بأعلى صوته: يا لعازر، هلم فاخرج.” (يو 11، 41- 43).
ولكنّ يسوع بلغ قمة عمق صلاته إلى الآب لحظة ألمه وموته على الصليب، حين قال كلمة “نعم” مطلَقة لمشروع الله، وأظهر كيف أنّ الإرادة البشرية تحقّق كمالها التام في الالتحام الكامل بمشيئة الله، وليس في معارضة هذه المشيئة. وفي صلاة يسوع والصرخة التي وجهها إلى الآب على خشبة الصليب، يجتمع “كلّ كرَب البشرية على مر العصور، تلك البشرية المستعبدة من قبل الخطيئة والموت، وجميع الطلبات والتضرعات في تاريخ الخلاص.. ها إنّ الآب يقبلها ويستجيب لها بما يفوق كلّ رجاء من خلال قيامة ابنه الوحيد. هكذا يتحقّق ويتمّ مشهد الصلاة في تدبير الخلق والخلاص” (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 2606).
إخوتي وأخواتي الأعزاء،
فلنطلب من الرب بملء الثقة أن يمكّننا من عيش درب صلاتنا البنوية، متعلّمين كلّ يوم من الابن الذي جعل نفسه بشراً لأجلنا كيف نخاطب الله. وتنطبق كلمات القديس بولس حول الحياة المسيحية على صلاتنا أيضاً: “وإنّي واثق بأنّ لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا أصحاب رئاسة، ولا حاضر ولا مستقبل، ولا قوات، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، بوسعها أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو 8، 38- 39).

* * *
نقلته من الفرنسية إلى العربية كريستل روحانا – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير