إنجيل المخلع

تأمل في قراءات القداس بحسب الطقس الماروني

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني
روما، الجمعة 16 مارس 2012 (ZENIT.org). – الألم، الغفران والإيمان هم جوهر إنجيل أحد المخلع، وكلام الرب يسوع ومعجزاته يبرهنون عن وقع وفعالية “الكلمة الإلهية” في  عمق حياة الإنسان كي يشهد حقاً على عمل الله الخارق في الشفاء الجسدي والروحي في آنٍ معاً. إن لقاء يسوع بالمخلع لم يأتِ بدافع شخصي ومباشر من المريض عينه، إنما بنيَّةِ وإيمان أربع رفاق له، رغبوا في لمس حقيقة الخلاص وواقعية تعليم المسيح الشافي.
ها إن المسيح يعود الى كفرناحوم لِيُبشِّرَ بكلمة الحياة، مبدأ وغاية رسالته العلنية، بَيد أن إجتراح العجائب فكان يقوم به عند الحاجة، لإظهار مجد الله وإيمان طالبيه. في حدث شفاء المخلع، يتبيّن لنا جلياً إيمان الرفاق الأربع المصبوغ بعنادهم وإلحاحهم في طلب حاجتهم. فالمخلع لم يأتِ لدى المسيح من تلقاء ذاته، بل بدافع شخصي من رفاقه الذين حملوه وقادوه الى يسوع، طالبين شهادةً على صلابة إيمانهم وبرهانا قاطعاً على أن ما يبحثون عنه سيجدونه بالتأكيد لدى المُبشر. هذا النوع من الإيمان يؤكد على ان المتسحيلات لا مكان لها في قاموس المسيح ولا ضمن مشروعه الخلاصي، ولا حتى في قناعة الرفاق الاربع، الذين ولربما، ألحّوا على المخلع بالمثول أمام يسوع، لأنهم كانوا على يقين تام بأن أي جواب على حاجة الإنسان، موجودٌ حتمياً وفقط لدى يسوع.
هذا الإيمان الصلب والعلني لم يُخفَ عن نظر وإدراك يسوع، فقد رآه، قدّره وأحبّه، وأراد أن يبرهن للمخلع، لحامليه ولكل الحاضرين بأن هنالك أرقى واسمى مما يطلبونه، ألا وهو الشفاء الروحي، قاعدة ومصدر كل شفاء والعامل الأول في تبرئة وبناء الهيكل الترابي بفضل عمل روح الله فيه ومن خلاله. يعمل يسوع أولا على الإهتمام بشفاء النفس من الخطايا والتشوهات المؤلمة، كي يتمكن الإنسان بعد ذلك ومن تلقاء ذاته، من التفاعل مع نعمة الرب، فيبادر الى تلقي شفاء الجسد ليسترد مجددا عمله الطبيعي.
أدرك الفريسيون تماما بأن ما قام به يسوع من غفرانٍ لخطايا المخلع هو عمل جبار لا يقوم به إلا الله وحده، ولكن ما غاب عن نظرهم وحُجب عن أذهانهم، مدى فعالية وقيمة “الكلمة” التي ينطق بها يسوع في تعليمه، كدلالة واضحة على حضور الله بين البشر في شخص يسوع بالذات. لِيسوع الحق الكامل بالقيام بعمل الله الآب، لذا كان من الصعب على الفريسيين لمس قوة شفاء الروح التي أسهمت في الشفاء الجسدي للمخلع، ذلك لقساوة قلوبهم وتحجر أذهانهم، ما منعهم من الولوج الى فكر وروح يسوع، هم ارباب الشريعة وعلماؤها، وقد فضّلوا البقاء خارج حرية ومنطق الله متمسكين فقط بطرف الشريعة دون محتواها.
إن غفران الخطايا لأمر عسير الفهم والإدراك، لأنه عمل لامنظور ومحجوب عن عيون من لا إيمان لهم. طبيعيا، لا قدرة لنا  على رؤية الغفران بالعين المجردة بل يقتصر ذلك على الرؤية الداخلية بعين الإيمان، المُنوَّر بفعل الروح القدس وقوته في نفس، قلب وعقل الإنسان. لقبوله يجب التحلي بكلمة الله أولاً للتمكن من الدخول في معيّته والتبصر من خلال نظره الشافي لضعفنا وقلة إيماننا. الشفاء العاجل لحالة جسدية مستعصية أتمها يسوع بعد أن شفى المخلع من كل ما يربط روحه ويعيق فهم إرادة الله وعمله فيه، هذا ما كان باستطاعة أحد من الحاضرين القيام به، لأنه حتى لو تمكنوا من شفاء المخلع من العلة الجسدية، لتركوه أسيرا في علّته الروحية المُكبِّلة لكل فكر وعمل قابلَين على التحرر والإنفتاح على الحياة والمجتمع.
ما قام به يسوع عَصِيَ عنه الباقون. فعند يسوع السهولة التامة في القيام بالأمرين معاً وبوضعهما في ترتيب واقعي وعملي: أعطى الأولوية لشفاء الروح ثم أتبعه بشفاء الجسد، فكانت أعجوبة الشفاء الجسدي بمثابة برهان قاطع على الشفاء الروحي من الخطايا، ليقول لسامعيه بأن الروح هو نبض الجسد، فإذا تحرر الروح من معاصيه وُجدَ الجسد حرا وطليقا، وإن قُيِّدَ الروح بسلاسل الشر، أغوت شهواته الجسدَ وجعلته أسير الظلم. بذلك يكتمل الشفاء التام ويُخَلَّص الجسد والروح معا من عبودية الخطيئة.
 إن المخلع الذي عجز عن الحراك لمدة من الزمن استقام حالا، حمل فراشه وخرج بمرأى من الجميع، وكان قيامه سبب تمجيد وتسبيح ألسن الحاضرين بعظمة الله القادرة على كل شيء. الله هو الآمر وما على الإنسان إلا الإستجابة له، أمرُه مُحب، غافر، مستقيم وعادل، يقوم به لمصلحة خائفيه وخيرهم. في أعجوبة شفاء المخلع، يحرر يسوع ويشفي بواسطة الغفران، يُعلّمه لنا لا إنطلاقا من مبدأ نظري إنما من فعل خلاصي مُجسَّد بإختياره، بالتصدي والمواجهة للثقافة الإجتماعية المنغلقة على ذاتها والحاكمة بتسلّط على المريض بالتهشيم والنبذ. وقف يسوع الى جانب المخلع، أقامه على رجليه وبرأس مرفوع، مكّنه من ذاته، ردّ إليه الثقة بنفسه، فلم يعد فردا منبوذا، إنما أعاد له الإعتبارات الإنسانية والإجتماعية التي يتحلى بها كل إنسان، ميزات لطالما حلم بها وتلهف الى تذوقها والإحساس بها.
في هذه الأسابيع المتبقية لنا من زمن الصوم المقدس، يدعونا المسيح الى التعمق  في فعل الغفران لإعادة تأهيل العلاقات المُنقطعة ما بين الإنسان وأخيه، كي يمحوَ ما نتج عنها من آلام مصدرها أحاسيس مشوهة ومجرِّحة، كالإهانة، البغض، الحسد، الأنانية، حب التسلط واللذة في الهيمنة على الآخر. إن الغفران بحد ذاته ما هو إلا الخطوة الأولى المضادة للتلوث الداخلي الذي يخنق الروح ويضيّق على مسيرة النمو الإنساني والروحي معاً.       

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير