حلب، الثلاثاء 20 مارس 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي رسالة مفتوحة وجهها المطران غريغوريوس يوحنا ابراهيم ميتروبوليت حلب لطائفة السريان الأرثوذكس “إلى كل الأصدقاء وصانعي السلام في العالم”.
* * *
أحييكم تحية السلام والأمان وأقول:
قبل الانفجار المرعب الذي وقع على بعد ٣٠٠ م من المطرانية السريانية في السليمانية، صباح يوم الأحد ١٨ آذار ٢٠١٢، كنت ألقي عظةً روحيةً في الكنيسة السريانية في حي السريان، موضوعها: الكنعانية وأعجوبة شفاء ابنتها المجنونة. وقلت للمؤمنين : إننا اليوم أمام درسٍ عمليٍّ جديدٍ نتعلم منه كيف نصلي. فالكنعانية كانت بحاجة إلى دواءٍ ناجعٍ يشفي ابنتها المجنونة، وأخيراً بعد أن كابدت كثيراً، وتعبت من مراجعة الأطباء وإنفاق المال الكثير من أجل شفاء ابنتها، سمعت أن طبيباً سماوياً يمرّ من صور وصيداء، فحرّكها إيمانها بالقادم من اليهودية، وفكّرت أنّ الساعة قد دنت وابنتها ستكون طبيعية بمجرد أن يقبل طلبها !
ولكن الكنعانية لم تكن من بنات إبراهيم واسحق ويعقوب، وهذا الطبيب لم يأتِ إلا إلى الخراف الضالة من إسرائيل، وفي نظره الظاهري، وكما كان يبدو للتلاميذ، أنه ليس جيداً أن يعطى خبز البنين للكلاب، ولكن الكنعانية رضيت أن تأكل من فتات البنين حتى ولو عُدَّت من الكلاب.
أمام هذا التنازل عن كرامتها الإنسانية، وقبولها رأي الطبيب السماوي، وبما أنها آمنت بالسيد المسيح، وجاءت إليه صاغرةً، وأظهرت إيماناً عظيماً أدهش الحضور وبينهم يسوع نفسه، أثّرت صلاتها فيه رغم أنها كانت صلاةً قصيرةً ومؤلفةً من عبارةٍ واحدةٍ : ” ارحمني يا ابن داود “، وعندما لم يُجِبْها بكلمة، جاءت وسجدت له، وأكملت صلاتها قائلة: ” أعِنّي “، استجاب لصلاتها المقترنة بالإيمان العظيم، ومنح الشفاء لابنتها المجنونة.
قلتُ للمؤمنين: لقد جاءت الساعة لكي نتوجّه إلى الله في هذه الأيام، تماماً كما فعلَت الكنعانية يوماً ما، ونقول له: ” يا رب ارحمنا وأعنّـا “.
ونحن نطلب اليوم من كل أصدقائنا في هذه الأيام العصيبة التي نمر بها في سوريا التي تغنّـت بالأمن والأمان والاستقرار، أن يصلوا من أجلنا، ويقولوا للرب الإله: ” يا رب ارحم سوريا وشعبها، وأعِنْهم “. نؤمن أن الرب سيسمع الصلاة، ويستجيب إليها.
كنتُ وقتها في السيارة، وعلى بعد أقل من مئة مترٍ من موقع الانفجار، وشعرتُ أن ساعة الرحيل من هذا العالم قد دنت، لأن السيارة ارتجّت في أرضها بعنفٍ شديدٍ .شعرتُ أن دويّ الانفجار كأنه دخل إلى أذنيّ، ولم أرَ شيئاً، ولكني سمعتُ أصواتاً تتعالى، وبكاءً وصراخاً يأتيان من كل الجهات، وهي تنادي: يا الله .. يا الله ارحمنا وأعِنّـا. كان الصراخ يشبه صوت الكنعانية وهي تنادي ابن داود قائلةً: ” ارحمني يا ابن داود “.
لقد كانت حصيلة هذا الانفجار القوي جداً، ثم زخّات الرصاص التي رافقته، أن ملأت المكان خوفاً ورعباً، وفورا سقط ٣ شهداء أبرياء، وزاد عدد الجرحى على الثلاثين، أغلبهم من سكان الحي المسيحي.
هذا هو الانفجار الثاني في حي أغلبية سكانه من المسيحيين، ورغم أننا لا نريد أن نصدّق بأن الهدف هو المسيحيون، ولكن هنالك من يريد أن يؤكد هذه النظرية، أي أن الإرهاب في سوريا يتوجه الآن إلى المسيحيين. ونحن لا ننسى أن عدد الشهداء المسيحيين في حصار مدينة حمص قد زاد على المئة والعشرين شهيداً، ويوجد مئات من الجرحى، وبعضهم أصبحوا معاقين.
رغم كل هذا فإن انفجاري دمشق وحلب، وفي الحيين اللذين غالبية السكان فيهما هم من المسيحيين، أثارا شعوراً بأن المسيحيين في سوريا أصبحوا هدفاً مباشراً للإرهاب. وفي كل الأحوال، نحن مع كل السوريين ننتظر نتائج التحقيقات لتظهر حقيقة ما حصل في هذين الانفجارين.
إننا نرفض أن تكون هذه اللغة المستخدمة اليوم في سوريا مألوفةً، ونتمنى أن لا يقال مثلاً: ” مسيحي ومسلم، أو سنّي وعلوي، لأن لغة الأديان والمذاهب خطيرة جداً، وتؤدي في كل الحالات إلى نتائج وخيمة وغير متوقعة.
إن المسيحيّ اليوم هو أمام أمرين مؤلمين، الأول: الهجرة التي ستقضي على البقية الباقية من المسيحيين، كما حصل في العراق، حيث تؤكد الأخبار بأن أكثر من نصف المسيحيين غادروا العراق، والباقون على جدول الانتظار !
والثاني: هو الإسلام المتشدد الذي زادت من خلاله أصوات الأصوليين والمتطرفين في الوطن العربي، خاصةً في السعودية. فالسلفية، والوهابية أصبحتا فعلاً خطراً على الحضور المسيحي في الشرق، وانتشارهما يعطّل دور شهادة الكنائس في نشر ثقافة المواطنة والإيمان بالتعددية، والديمقراطية، والإصلاحات، والحريات العامة المطلوبة اليوم في كل مجتمعاتنا .
غريغوريوس يوحنا ابراهيم
متروبوليت حلب