مريم العذراء هي صورة ونموذج الكنيسة

الفاتيكان، الأربعاء 28 مارس 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي عظة قداسة البابا بندكتس السادس عشر في في ساحة أنطونيو ماسيو في مدينة سانتياغو دي كوبا، بمناسبة الاحتفال بعيد بشارة العذراء مريم  نهار الاثنين 26 مارس 2012.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

* * *

إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
أشكر الربّ الذي سمح لي أن آتي إليكم وأن أقوم بهذه الرحلة التي لطالما تمنّيتها. إنّي أحيّي المونسنيور ديونيسيو غارسيا إيبانييس، رئيس أساقفة سانتياغو دي كوبا، شاكراً إيّاه على كلمات الاستقبال اللطيفة التي وجّهها إليّ باسمكم جميعاً، كما أحيّي الأساقفة الكوبيّين وجميع الذين قدموا من بلدان أخرى،  والكهنة ورجال الدين والإكليريكيين والمؤمنين العلمانيين الحاضرين في هذا الاحتفال. ولا يمكنني أن أنسى مَن لم يتمكّنوا من المشاركة معنا بسبب المرض، أو بسبب التقدم في السنّ أو لأسبابٍ أخرى،. وأشكر أيضاً ممثلي السلطات الذين رغبوا بمرافقتنا بطيبة خاطر.  
إنّ هذا القدّاس الإلهي، الّذي يسعدني أن أترأّسه ولأوّل مرة خلال زيارتي الرعويّة إلى هذا البلد، يُصادف في سياق السنة اليوبيليّة المريميّة، المكرّسة لتكريم سيدة العطاء النحاسية شفيعة كوبا، بمناسبة مرور 400 سنة على اكتشاف صورتها الجليلة في هذه الأراضي المباركة. كما يجب ألا ننسى التّضحية والإخلاص اللذين بواسطتهما تمّ التحضير لليوبيل، وبخاصّةٍ من وجهة نظرٍ روحيّة. إنّ معرفتي بمدى الحماسة الّتي رحّب بها وتضرّع عدد كبير من الكوبيين إلى العذراء مريم، أثناء رحلة حجّ التي لفّت بها نواحي الجزيرة كافة قد غمرتني بالعاطفة.
إنّ هذه الأحداث المهمّة بالنّسبة إلى الكنيسة في كوبا مضاءةٌ ببهاءٍ غير اعتياديّ وذلك بفضل العيد الذي تحتفل به الكنيسة العالميّة اليوم: بشارة الرب لمريم العذراء. في الواقع، إنّ تجسّد ابن الله هو السرّ الجوهري في الإيمان المسيحيّ، والذي تلعب فيه مريم العذراء مريم دوراً أساسياً. ولكن، ما معنى هذا السرّ؟ وما أهميّته في حياتنا الواقعية؟
لنرَ وقبل كلّ شيء ما معنى التجسّد. لقد سمعنا في إنجيل لوقا ما قاله الملاك لمريم: “روح القدس يحلّ عليك، وقدرة العليّ تُظلّلك. لذلك فإنّ المولود منك سوف يكون قدّوساً، وابن العليّ يُدعى” (لو 1، 35). ابن الله صار بشراً من مريم، متمّماً ما جاء في نبوءة أشعيا: “ها إنّ العذراء، تحبل وتلد ابنًا وتسمّيه يسوع، أي الله معنا” (اش 7، 14). نعم، يسوع، أي الكلمة، صار جسداً، وهو الله معنا، جاء ليسكن بيننا وليشاركنا حالتنا البشريّة ذاتها. يعبّر الرسول يوحنّا عن ذلك بالكلمات التّالية: “الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا” (يو 1، 14).
إنّ عبارة “صار جسداً” تؤكّد حقيقة البشريّة الملموسة والأكثر واقعية. من خلال المسيح، جاء الله حقّاً إلى هذا العالم ودخل في تاريخنا، وثبّت ديمومته بيننا، متمّماً طموح الكائن البشريّ الشخصي والذي يهدف إلى جعل العالم حقّاً مسكناً للانسان. من ناحيةٍ أخرى، عندما يُرمى الله خارجاً، يتحوّل العالم إلى مكانٍ غير مضيافٍ للإنسان، مُضلّلاً في الوقت عينه للدعوة الحقيقيّة إلى خلق مساحة للاتحاد، ولقول “نعم” الحبّ بين الله والبشريّة الّتي تستجيب إلى حبّه. هذا ما قامت به مريم التي أصبحت بقولها كلمة “نعم” مطلقة للربّ مبشّرة المؤمنين.
لذلك، وأثناء تأمّلنا في سرّ التجسّد، ليس بإمكاننا أن نحول من دون أن ننظر إليها وأن نمتلئ دهشةً وامتناناً وحبّاً عند رؤيتنا كيف أنّ إلهنا، بمجيئه إلى هذا العالم، أراد أن يعتمد على القبول الحُرّ لإحدى خلائقه. ولم يتمّ ذلك إلّا عندما أجابت العذراء الملاك: “ها أنا أمةٌ للربّ. فليكن لي بحسب قولك” (لو 1، 38) ، فبدأت مذاك حياة كلمة الله الأبديّة في التاريخ البشري. إنّه لمؤثّر رؤية كيف أنّ الله لم يحترم حريّة الانسان فحسب، بل كان بحاجة إليها أيضاً. كما أنّنا نرى كيف أنّ بداية حياة ابن الله على الأرض قد تميّزت بـ”نعم” مضاعفة لمشيئة الله المخلّصة: “نعم” المسيح و”نعم” مريم. هذه الطّاعة للآب هي الّتي تفتح أبواب العالم إلى الحقيقة والخلاص. في الحقيقة، لقد خلقنا الله كثمرة لحبّه الّلامتناهي، ولذلك فإنّ العيش بحسب مشيئته هو السّبيل لاكتشاف هويّتنا الحقيقيّة، حقيقة كياننا، بينما الابتعاد عن الله يبعدنا عن أنفسنا ويدفعنا نحو الفراغ. إنّ الطاعة في الإيمان هي الحريّة الحقيقيّة والخلاص الحقيقي اللذين يمكّناننا من الاتّحاد بمحبّة المسيح من خلال الجهد الذي بذله من أجل الامتثال إلى مشيئة الآب. إنّ الخلاص هو دائماً هذه العمليّة الّتي تحمل مشيئة الانسان وتضعها بمشاركة كاملة مع المشيئة الالهيّة (راجعLectio divina avec le clergé de Rome, 18 février 2010).
إخوتي الأعزّاء، نمدح اليوم العذراء الكليّة القداسة على إيمانها ونقول لها مع القدّيسة أليصابات: “طوبى للّتي آمَنَت” (لو 1، 45). وكما يقول القدّيس أغسطينوس، فقبل أن يُصوَّر المسيح في أحشائها، فلقد تصوّرته مريم من خلال إيمان قلبها (Sermon 215, 4 : PL 38, 1074). لنطلب من الله أن ينمّي إيماننا، وأن يجعله حياً ومثمراً بالحب. لنطلب منه أن يعلّمنا كيف نستقبل كلمة الله في قلوبنا كما استقبلتها مريم، وأن نطبّقها بطاعةٍ وثبات.

إنّ مريم العذراء، ومن خلال دورها الّذي لا غنى عنه في سرّ المسيح، تمثّل صورة ونموذجاً للكنيسة. وعلى مثال العذراء، فإنّ الكنيسة أيضاً مدعوّة إلى استقبال سرّ الله الآتي ليقيم فيها. إخوتي الأعزّاء، أعرف الجهود التي تبذلونها، والجرأة والنكران اللذين يرافقانكما كلّ يوم كي تتمكّن الكنيسة، ومن خلال هذه الحقائق الملموسة التي تشهدها بلادكم وفي هذه المرحلة من التّاريخ بالتجديد، من أن تعكس بشكل أكبر وجهها الحقيقيّ كملتقى يقترب فيه الله من البشر ويلتقي بهم. فرسالة الكنيسة، أي الجسم الحيّ للمسيح، تمديد الحضور ال
خلاصيّ لله على الأرض، وفي الكشف للعالم عمّا يفوقه حجماً، أي حبّ الله ونوره. لذا فإنّ ما يستحقّ العناء، يا إخوتي الأعزّاء، وهو أن تقدّموا كلّ حياتكم للمسيح، وأن تنموا كلّ يومٍ في صداقته، وأن تشعروا بأنّكم مدعوّون إلى إعلان جمال حياة المسيح وطيبتها للبشر جميعاً، لإخوتنا. إنّي أشجّعكم بأن تقوموا بزرع كلمة الله في هذا العالم وأن تقدّموا للجميع غذاء جسد المسيح الحقيقيّ. ها إننا قد اقتربنا من عيد الفصح، فلنصمّم من دون خوف ولا تعقيد أن نتبع المسيح على درب الصليب. لنقبل بصبرٍ وإيمان أي إهانة أو محنة، مقتنعين بأنّ الربّ من خلال قيامته قد غلب قوّة الشرّ الّتي تظلم كلّ شيء خالقاً عالماً جديداً، عالم الله والنّور والحق والفرح. فالربّ لن يكفّ مطلقاً عن مباركة إخلاصكم الكريم بثمارٍ كثيرة.
إنّ سرّ التجسّد، الّذي بواسطته يقترب الله منّا، يُظهر لنا أيضاً الكرامة التي لا تُضاهى لكلّ حياة بشريّة. لذا فإنّ الله، في مشروع الحبّ منذ الخلق، قد أوصى العائلة المبنيّة على سرّ الزّواج، بالرسالة الأسمى، ألا وهي أن تشكّل خليّة أساسيّة للمجتمع، وأن تكون الكنيسة المنزلية الحقيقيّة. إنّه، وبهذا اليقين، عليكم، أنتم الأزواج، أن تكونوا علامةً حقيقيّة وظاهرة لحبّ المسيح للكنيسة، وبنوع خاصّ لأولادكم. كوبا بحاجة إلى شهادةٍ لإخلاصكم، ولوحدتكم، ولقدرتكم على استقبال الحياة البشريّة، وخصوصاً تلك المحتاجة والتي ليس لديها من يدافع عنها.
إخوتي الأعزّاء، إنّي وتحت نظر سيدة العطاء النحاسية في كوبا، أودّ أن أدعوكم إلى أن تعطوا زخماً جديداً لإيمانكم، وأن تعيشوا من المسيح ولأجل المسيح، وأن تكافحوا مستخدمين سلاح السّلام والمغفرة والتفهّم، حتّى تتمكّنوا من بناء مجتمع منفتح ومتجدّد، مجتمع أفضل وأكثر جدارةً بالانسان، يعكس بشكل أفضل طيبة الله. آمين.

* * *
نقلته من الفرنسية إلى العربية كريستل روحانا – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير