بقلم الأب هاني باخوم
روما، الخميس 23 يوليو 2009 (Zenit.org) – العقل او الحكمة البشرية، تستطيع ان تفسر سبب الم الشّرير، الخاطىء اوالمذنب. فنقول ان هذا الألم او تلك المصائب التي تصيبه قد تكون عقاباً من الله، لكي يكفر عن ذنبه. بمعنى انه يستحق هذا الالم؛ لقد اذنب وهذا هو الجزاء، فهو يدفع ثمن ما فعل.
اذا إفترضنا ان هذا التفسير صحيح، فكيف يمكننا ان نفسر الم البار، الم الغير مذنب، الم من يولد بإعاقة، الم الاطفال من جراء الحروب، الم المرضى النفسيين و العقليين، الم من تقع عليه خيانة ؟
سؤالنا اذاً: لماذا يتألّم البار، الذي لم يذنب؟ وهذا السّؤال يدفعنا لطرح سؤال آخر: لماذا يسمح الله بهذا الألم ؟ من هو هذا الاله الذي يسمح بألم كهذا ؟ اي منفعة له او للإنسان من خلال هذا الالم ؟ السّؤال يبدأ اذا بلماذا الم البار ؟ لكن يجعلنا نسأل بعد ذلك من هو الله وما علاقته بالإنسان؟
اسئلة عديدة، لا ادّعي انني سوف اجيب عنها في هذه الصّفحات، ولكن كلّ ما اطمح اليه هو ان ندخل سويّاً في هذا السّر الكبير، ونحاول ان نترك انفسنا لكلمات الكتاب، كلمات سفر ايوب، لتروي ولو جزءً من عطشنا للحقيقة.
حياة ايوب، او بالاحرى خبرة ايوب مع الله هي مدخل لهذا السّر الكبير. فالكتاب المقدس لا يعطينا اجابات مصنوعة او افكاراً ليرد بها على هذا السّر ولكن يعرض لنا خبرة شخص، خبرة ايوب.
ايوب رجل من ارض عوص، والّتي من المحتمل ان تكون في جنوب أدوم، اي انه من ارضٍ الى حدٍ ما مجهولة. يقول المفسرون ان الكتاب يقصد بهذا ان ايوب انسان غير معروف مجهول الجذور والأصل. هو رمز لكلّ انسان. هو انسان كلّ مكان وكلّ زمان. اي ان خبرة ايوب هي خبرة عامّة وهامّة لكلّ انسان على الأرض.
ايوب شخص كامل ومستقيم، يتقي الله و يجانب الشر. لم يكن فقط باراً بل كان يبرر الآخرين ايضاً. كان يقدّم المحرقات عن اولاده ليكفّر عن اخطائهم الّتي ارتكبوها. كان مباركاً من الرّب، له سبعة بنين وثلاث بنات، اي عشرة اولاد، وهذا الرّقم يرمز للتمام. كان غنيّاً بالأرض والخدم وايضاً بالصّحة. كان رجلاً سعيداً، عائلته مرتبطة بالحبّ والسّلام. لقد كان كلّ من ابنائه يقيم مأدبة في يوم ما ويدعو اخوته للاحتفال معه.
فحياة ايوب تمثل واقعياً حلم السّعادة والطّمأنينة.
وفي لحظة، يحملنا سفر ايوب من الارض الى السماء، الى ذلك المشهد الغريب؛ كل الملائكة يتقدمون امام الله ومعهم ابليس يقول الله للشيطان: أرأيت كيف ان ايوب رجل كامل ومستقيم؟ فيرد الشيطان على الله قائلاً: ان ايوب بار ليس حباً بك وليس مجاناً، بل لأنّك باركته واعطيته كل شيء. فهو يستفيد من بركتك لذا يعبدك.
هنا سفر ايوب يستخدم كلمات المجرب ليطرح السّؤال: لماذا نعبد الله؟ لماذا ايوب هو بار؟ هل الانسان، ايوب، يعبد الله ويسبحه لأنّه هو الله، لانّه هو اله المحبة، لانّه مستحق هذا الحبّ، لانّه هو الجمال نفسه، لانّه هو الخير في حد ذاته؟ او يعبد الله لانّه مصدر الخيرات، والبركة؟ أيعبد الله من اجل الله او من اجل خيراته؟ هذا ليس تلاعباً بالكلمات او فلسفة عن الدّيانة. بل سؤالاً عن طبيعة علاقة الانسان بالله. هل الانسان يحبّ الله؟ ام يخاف الله (لا اقصد المخافة، والتي هي شيء مقدس ورأس الحكمة). الله مصدر خيرات وان لم اكن اميناً له لن يباركني. سيتركني للفقر و المرض لذا من مصلحتي عبادته. اذا ظهر من يعرض علي اكثر مما اعطاني الله من سأتبع؟
ايوب يفقد ابنائه وخدمه وممتلكاته. يفقد العائلة المباركة، ويفقد كلّ ما جمعه بلا سبب. ايوب لا يعرف شيئاً عن الحوار الذي دار بين الله والشّيطان. ايوب لا يدري بشيء. كان غنياً و محاطاً بالبنين، كان في عيد مستمر والآن كل شيء انتهى ولا يعرف لماذا. وبالرغم من كل ذلك يستمر في بركة الله وعبادته ويقول: ” عُريانا خرجت من بطن امّي وعرياناً اعود اليه، الرّب اعطى والرّب اخذ فليكن اسم الرّب مباركاً “. (ايوب 1: 21)
كان من الممكن ان ينتهي هنا سفر ايوب. ونعلن انتصاره. فقد اثبت انه كان يعبد الله من اجل الله ليس من اجل خيراته. ايوب فقد كلّ شيء ومازال باراً واميناً.
لكن سفر ايوب لا ينتهي، بل يصعدنا من جديد الى السّماء، لنسمع الحوار نفسه بين الله والمجرب. فيقول المجرب: لا، المحنة التي مرّ بها ايوب لم تمسّه هو. بالتأكيد قد تألم وحزن لموت ابنائه و فقدانه للخيرات ، لكنّك لم تلمس جسده ولحمه . ان لمست ذلك في ايوب، يقول المجرّب لله ، سترى انه سيجدّف عليك في وجهك. فالتّجربة يجب ان تلمس حياته نفسها، والّتي هي الخيرالاعظم لكل انسان، والّتي عندما تكون في خطر هناك تظهر اولويّات هذا الانسان.
يصاب ايوب بقرح خبيث في كل جسده . فتقول له زوجته، الّتي هي لحم من لحمه، وكأنّ جسد ايوب يكلّمه: ” أإلى الآن متمسك بكمالك ؟ جدّف على الله ومت.
ايوب يردّ على تجربة زوجته، اي على جسده قائلاً: انّما كلامك ككلام إحدى الحمقاوات. أنقبل الخير من الله ولا نقبل منه الشّر؟ ” (ايوب 2 : 10 )
وبهذا يعلن ايوب صدقه في عبادة الله، ايوب يحبّ الله لانّه الله. ويقول الكتاب ان في كلّ هذا ايوب لم يخطىء بشفتيه، اي لم يجدّف بل استمر في كماله. وهنا بالفعل كان من الممكن ان ينتهي سفر ايوب. فالمجرّب قد اختفى، وايوب استمر في بره. لكن الكتاب لا ينتهي بل يبدأ. كلّ هذا ما كان الا مقدّمة لسفر ايوب، لأن الكتاب يريد ان يأخذنا لشيء اعمق من سبب الألم يريد ان يدخلنا في سر علاقة الانسان بالله و من هو هذا الاله.
يأتي ثلاثة اصدقاء
لكي يعزّوا ايوب في آلامه. يبقون معه لمدة اسبوع دون ان يقولوا كلمة. وبعد ذلك يحدث شيء غريب؛ يفتح ايوب فمه ويلعن يوم ولادته، يرغب الموت، بل يرغب لو لم يكن قد ولد اصلاً، يخرج عن وعيه، عن برّه، ماذا حدث؟ ماذا جدّ لكل هذا؟ كنا نتوقّع ان الامور ستتحسّن. فإبليس قد اختفى من القصّة، ولم يعد يتّهم ايوب، والكتاب اعلن ان ايوب لم يخطىء حتّى الآن. آلام ايوب هي نفسها كالسّابق و الّتي امامها بارك الله. فماذا جدّ لكي يلعن يوم مولده ويخرج عن صوابه هكذا؟
سنتناول هذا الشّيء في الجزء الثاني من ايوب .
الأب هاني باخوم، كاهن قبطي، وهو نائب مدير أكليريكية أم المخلص في لبنان