انطلياس، الأربعاء 1 فبراير 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي كلمة الأب بولس روحانا أمين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط في الجلسة الافتتاحية للمداولة المسيحية الإسلامية حول الحضور المسيحي والشهادة في العالم العربي كاثوليكوسية الأرمن الأرثوذكس، انطلياس، لبنان الثلاثاء 24 كانون الثاني 2012، الساعة السابعة مساءً.
* * *
– صاحب القداسة آرام الأول، كاثوليكوس الأرمن الارثوذكس بيت كيليكيا، ورئيس عائلة الكنائس الارثوذكسيّة الشرقيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط؛
– صاحب الغبطة ميشال صبّاح، بطريرك اللاتين السابق للقدس؛
– حضرة القسّ الدكتور أولاف فيكس تفيت (Olav Fykse Tveit)
أمين عام مجلس الكنائس العالمي، جنيف
– حضرة المشاركات والمشاركين في هذه المداولة المسيحيّة الإسلاميّة،
– أيّها الأحباء
1- بدايةً، أودّ ان اشكر صاحبَ القداسة، الكاثوليكوس آرام الأوّل لاستضافته الكريمة لهذه المداولة المسيحيّة الإسلاميّة حول الحضور المسيحي والشهادة في العالم العربي، في ضوء ما باتَ يُعرَف “بالربيع العربي”. وقد دعا الى هذه المداولة ونظّمها مشكوراً بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأوسط، مجلس الكنائس العالمي في جنيف ممثّلاً بيننا بشخص امينه العام القس الدكتور أولاف وبالسيّد ميشال نصير، مدير مكتب الشرق الاوسط في المجلس المذكور.
2- تُعبّر هذه المداولة عن همّ مسيحيّ واسلامي مشترك، في الشرق والغرب، في السعي الى بنيان مجتمعات تعدّدية قائمة على مبدأ الكرامة الإنسانية التي تستمدّ قوّتها من الإيمان المشترك بالإله الواحد، خالق الجميع وأب الجميع. والكرامة الانسانيّة تلك هي المصدر الأساس الذي تتحدّر منه الحقوق والواجبات الانسانيّة التي ينادي بها المؤمنون جميعاً وأصحاب الإرادات الصالحة. وللتأكيد على الأساس الالهي للكرامة الانسانيّة المشتركة بين الناس أجمعين، يطيب لي أتلوَ عليكم مقطعاً من نشيد سرياني قديم خاص بألحان المنتقلين أي الموتى الراقدين، وفيه وصف رائع وموجز لصنع “آدم الجميل”، قمّة المخلوقات. يقول النشيد: “أخذ ربّنا بيده تراباً من اطراف الأرض الأربعة، فَجَبَلَ آدم، صورتَه ومثالَه” (راجع “البيت غازو الماروني” (اي بيت الكنر)، الحان للمنتقلين، قدّم له وترجمه الأباتي يوحنا تابت، الكسليك، لبنان، 2004، ص 104).
فالإنسان، كلّ إنسان، وفق المعنى الرمزي لهذا النشيد الرائع هو كون مُصَغّر. علّنا نرقى في علاقاتنا المتبادلة إلى هذا المستوى من الوعي الروحي للبعد الكوني أو الشمولي لانسانيتنا المشتركة. وهذا البعد لا يعني المسيحيين والمسلمين وحسب بل كل الناس الى أي عرق او بلد او دين انتموا. فالدين يهدف قبل كل شيء الى تنمية وتعزيز المساحات الانسانية المشتركة بين البشر أجمعين حتى يلتقوا كإخوة في رحاب الله الواسعة. ولا بدّ من الملاحظة في هذا المجال ان التاريخ الديني بين الشعوب يشهدُ وللأسف تقلّصاً ملحوظاً لتلك المساحات ربّما بسبب ضيق نظر المؤمنين الذين يحتجزون الله في قوالب تفكيرهم الضيّقة. وهنا تكمن مأساة الدين وبعض المتديّنين واللاهوتيّين ورجال الدين… همّنا المشترك الاّ نعيش الدين كمأساة بل كرسالة تحرير نكتشفُ من خلالها جمال الكرامة الإنسانية التي تجمعُ بيننا.
3- الحضور المسيحي في العالم العربي هو مسألة قديمة متجدّدة، ومحور اساسي في انشطة مجلس كنائس الشرق الأوسط. انه حضور “دنحوي” (و هي صفة مشتقة من الكلمة السريانية “دنحو” أي الظهور والإعلان) يكشُف عن حالة ودعوة ورسالة. في التقليد السرياني، ان عماد يسوع في نهر الاردن (الغطاس) هو “دنح” أي كشفٌ واعلانٌ عن هويّة يسوع الحقيقيّة ورسالته العلنيّة. فالمسيحيون من خلال معموديّتهم يصبحون بدورهم “دنحويّين” يُعلنون دعوتهم ورسالتهم في السير وراء المسيح معلّمهم. في هذا السياق، ان الحضور المسيحي في العالم العربي بما يتضمّن من عيش مشترك بين المسيحيين والمسلمين ليس مسألة “براغماتية” تمليها عليهم ظروف اجتماعية وسياسية متقلّبة. فالمسيحيون والمسلمون ليسوا من هذا المنظار حزبين سياسيّين متقابلين، انهم قبل كل شيء شهود لانسانية جديدة في ضوء ايمانهم المشترك بالاله الواحد، خالق الجميع، وان اتّخذ هذا الإيمان اشكالاً وتعابير مختلفة بينهم.
4- وفي العقدين الأخيرين صدرت وثائق كنسيةّ مهمّة في موضوع الحضور المسيحي في العالم العربي، شهادةً ورسالة، اذكر منها الرسالة الثانية لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك (1992)، والرسائل الراعويّة الصادرة عن اجتماعات رؤساء الكنائس في الشرق برعاية مجلس كنائس الشرق الأوسط، ووثيقةَ سينودس الأساقفة الخاص بالشرق الأوسط الذي عُقِد في روما في العام 2010. نحن مدعوّون اليوم لا ان نكرّر ما جاءَ في الوثائق السابقة بل الى وعيٍ متجدّد لهذا الحضور في ضوء المتغيّرات العميقة التي تشهدها مجتمعاتنا العربيّة في الشرق الاوسط والتي تطال المسيحيين والمسلمين على حدّ سواء. ولا بدّ في هذه المراجعة الذاتية والجماعية لتلك المتغيّرات ان نأخذ بعين الاعتبار هواجس المسيحيين حيالها وهي كثيرة.
أولاً، ما هي مكانةُ المسيحيين كمواطنين في مجتمعات ذات الأكثرية المسلمة والتي تطمحُ الى تنظيم المجتمعات العربية وفق المعايير الدينية الاسلامية؟
ثانياً، ما هي مكانةُ الإنسان في الأنظمة العربية الجديدة؟ هل سوف تعتمد تلك الأنظمة على مبدأ المساواة المطلقة بين الناس على أساس الكرامة الإنسانية المشتركة ام أنها سوف تُقيم التمي
يزَ بينهم على أساس الانتماء الديني او العرقي أو المذهبي؟ إن المسيحيين المشرقيين، لكونهم مواطنين ومؤمنين، ليسوا متفرّجين أو لا مبالين حيال ما يجري في أوطانهم. هم يشعرون أكثر من أيّ وقت مضى بأنهم شركاء مع المسلمين، في تعدّد مذاهبهم، في مصير واحد. فالحضور المسيحي في الشرق الاوسط هو من هذا المنظار مسألة اسلاميّة بقدر ما هي مسألة مسيحيّة. ولا أبالغ بالقول ان مجلس كنائس الشرق الأوسط هو بيت المسيحيين والمسلمين على حدّ سواء وتاريخ المجلس، منذ تأسيسه في العام 1974 وحتى اليوم، خير شاهد على ذلك.
5- ان مواضيع المداولة التي تجمعنا في هذه الأمسية وفي الأيام الثلاثة المقبلة تطرح بوضوح علاقة الكنيسة بالمجتمعات العربية التي هي حاضرة فيها، شهادةً ورسالة. في هذا السياق، يسعى المسيحيّون المشرقيّون مع المسلمين الى تنظيم “المساحة العامة” “espace public” من خلال الإهتمام بقضايا الناس كلّها في ضوء القيم الإنسانيّة والدينيّة المشتركة بينهم ومع أصحاب الارادات الصالحة. معاً سوف يبحثون معاً عن الخير العام ومقتضياته كما عن الضروري الجامع بينهم الذي يُرضي الله ويرقى بالانسان الى ابهى درجات الانسانيّة.
إنهم في مداولاتهم لا يَسَعهم الاّ أن يطرحوا على ذواتهم بعض الأسئلة الدقيقة حول علاقة الدين بالمجتمع.
أولاً، كيف يُعقل أن يكون وضع الإنسان العربي بهذا القدر من التردّي على صعيد الكرامة الإنسانية وهو يُعاني من البؤس والجهل والعنف…الخ، فيما منطقة الشرق الاوسط هي التي احتضنت ولادة الرسالات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام؟
ثانياً، هل المشكلة تكمن في النصوص الدينيّة التأسيسيّة أم في تفاسيرنا اللاحقة لتلك النصوص؟ هل الصراعات ذات الطابع الديني هي علامة لفشل مشروع الله في الانسان، أم هي علامةٌ لفشل الإنسان في فهم سرّ الله وإرادته القدوسة في الإنسان والعالم ؟
6- ما هو الحلّ المرجوّ حيال هذا الواقع الإنساني المتردّي؟ إنّ الحلّ قد يكون في اعتماد التبادل الروحي بين المسلمين والمسيحيين والنأي عن المجادلات والممحكات العقيدية العقيمة. التبادل الروحي يقوم على أوليّة الصلاة وتوبة القلب. فالمؤمن قبل أن يكون مجادلاً في سبيل حقيقة إيمانه هو إنسان يُصلّي، يُصغي إلى ربّه أكثر ممّا يتكلّم؛ يُحبّ ويَصفح أكثر ممّا يَدين ويحكم… بفضل هذا التبادل الروحي، نُقيم مراجعة نقديّة للخطابات الدينيّة التي أنتجناها لتنقيتها من الشوائب الكثيرة التي علقت بها عبر التاريخ وهي تتحكّم بضمائر المؤمنين وسلوكهم، وتحجب وجه الله الرحيم والمحبّ والخالق للجميع… كما أن الشراكة بين المسيحيين على أساس الإيمان الواحد والمحبّة هي دليل على مصداقيّة إيمانهم بيسوع المسيح، كذلك فإنّ نجاح العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين هو دليلٌ على مصداقيّة المسيحيّة والاسلام. بفضل هذا التبادل الروحي، ينأى المسيحيون والمسلمون معًا عن استعمال أياتٍ ونصوص منتقاةٍ من هنا ومن هناك للتأكيد لا على صعوبة العلاقات بينهم وحسب بل على استحالتها أيضاً. بفضل هذا التبادل الروحي الصادق، يقوى المسلمون والمسيحيون على بنيان مجتمعاتهم وفق قيم المساواة والعدل واحترام الآخر والاقرار بمبدأ التعددية على كل الأصعدة.
7- إنّ هذه المداولة المسيحيّة الاسلاميّة هي حلقة ضمن سلسلة المداولات التي سبقتها والتي ستتبعها إن شاء الله. إنها تضع الإنسان العربي، المسلم والمسيحي، في حالة حوارٍ مباشر وصريح تحت نظر الله في سبيل خدمة الإنسان. لا بدّ في هذا الحوار من تحاشي مبدأ الخطابين أو الخطاب المزدوج (double langage)، في السرّ وفي العلن. لا بدّ أيضًا من تحاشي استعمال اللغة الخشبيّة (langue de bois) التي سئم الناس استعمالها لعدم جدواها.
8- نحن بحاجة إلى حوارٍ صريحٍ وبنّاءٍ بالحقيقة والمحبّة. نحن بحاجةٍ الى برامج تنشئة على العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين تطال الشبيبة في المدارس والجامعات.
الطريق ما زال طويلاً، وشاقاً !
كثيرون منّا يُصابون كلّ يوم بالإحباط والفشل حيال صعوبات العيش المشترك، فيختارون إمّا الانكفاء في أوطانهم إمّا الهجرة!
9 – صلاتي أرفعها معكم جميعًا لكي يجد المسيحيون والمسلمون معًا في تراثاتهم الروحيّة مساحات مشتركة من خلالها يعملون معًا لرفع الظلم والقهر والجهل وغير ذلك من نتاج الشرّ الذي يُدمّر فينا أسمى عطايا الله وهي الكرامة الإنسانيّة.
بوركت أعمال هذه المداولة المسيحيّة الاسلاميّة.
معًا سنتابع المسيرة بالإيمان الذي ينقل الجبال …
معًا سنتابع المسيرة بثبات الرجاء الذي به نرى النور خلف الظلمات…
معًا سنتابع المسيرة بقوّة المحبّة، وهي محبّة الله والقريب، وهي أعظم الوصايا (متى 22: 34-40).
بالمحبّة نجتمع عائلةً واحدة في رحاب الله، لأنّ الله محبّة (1 يو 4: 7).
الأب بولس روحانا