عمان، الخميس 15 مارس 2012 (ZENIT.org). – شاركت قبل يومين بورشة العمل المتخصصّة التي نظمها المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمّان، بعنوان: “المسيحيّة في الشرق.. إلى أين؟”. وفي الوقت الذي أثّر بي عنوان الندوة، فقد كنت أفكّر كذلك بتاريخ الندوة، أي الثاني عشر من آذار، والذي له معنى وطنيّ فارق. ففي ذلك التاريخ من العام 2002، أي قبل عشر سنوات بالتمام والكمال، تنادى العرب المسيحيون برعاة كنائسهم ومؤمنيهم في كل من الأردن وفلسطين، واجتمعوا برعاية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، في المؤتمر الذي عُقد في عمّان، وحمل شعار “معاً للدفاع عن الأمة”. وكان الهدف منه الدفاع عن الصورة الصحيحة للإسلام بعد الهجمات الإرهابية على أميركا، واتهام المسلمين والإسلام بالإرهاب. لقد وجد العرب المسيحيون أنفسهم آنذاك أمام تحدٍ تاريخي، تجاوبوا معه بكل ما تحمله رسالتهم الدينية وما يتضمنه إرثهم التاريخي الطويل والمشترك مع شركائهم الحضاريين العرب المسلمين.
لقد جاء المؤتمر في وقته المناسب، وفي مكانه المناسب أيضاً، أي في الأردن الذي يحتضن سكانه جميعا تحت ظلال قيادة واحدة، وفي هموم وآمال وطنية ومجتمعية واحدة. لذلك يُقال اليوم، وفي كل مكان، إنّ الأردن “صاحب رسالة” في الحوار الإسلامي المسيحي. وهي رسالة ليست موجهة فقط إلى سكانه الذين تجمعهم صِلات عشائرية متينة، وإنّما تمتد من الأردن إلى باقي أقطار العالم، في كيفية صنع التناغم والمودّة بين أتباع الديانات، وفي كيفية التركيز على الدين كعامل سلام لا فرقة بينهم.
والحوار الإسلامي المسيحي له شقّان، يدعمان بعضهما بعضاً: فهنالك حوار الحياة والعيش المشترك. وهو سمة ملازمة للطبيعة التركيبية الاجتماعية التقليدية في الأردن. ومنذ مجيء الإسلام للأردن وحتى يومنا هذا، والمسلم والمسيحي معاً، ربطتهما علاقات وديّة واجتماعيّة وعمليّة، وتجاورا في السكن وتشاركا في المناسبات، فخُلِقت الروابط المتينة بينهما، وتعرّف أحدهما على الآخر معرفة سليمة وصحية وصحيحة.
أمّا الشق/ النوع الثاني فهو الحوار الفكري. وقد كانت ولادته عالمياً في العام 1964، أي بعد زيارة البابا بولس السادس لبلادنا. ومحليا، ومنذ العام 1984، جرت العديد من المؤتمرات، وتأسسّت مؤسسات تعنى بالحوار، أهمها المعهد الملكي للدراسات الدينية، ومؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي وهي سابقاً المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية. وبرز في تلك الفترة العديد من الشخصيّات الرياديّة في الحوار، والتي يطول ذكرها في هذه العجالة. وفي أيلول 2006، وفيما قوطع الحوار نسبياً في العالم، إثر إحدى محاضرات البابا الأكاديميّة في ألمانيا، كان صوت العقل والمنطق صادراً من الأردن أيضاً، فتمّت صياغة رسالة “كلمة سواء”، من قبل 138 عالماً مسلماً ترأسهم سمّو الأمير غازي بن محمّد، وقابلوا البابا بندكتس السادس عشر في الفاتيكان، الذي أعلن تجاوبه معها بشكل سريع وإيجابي، وتم الإعلان عن تأسيس المنتدى الكاثوليكي الإسلامي الدائم. وقد ركزت وسائل الإعلام وقتها على كلمة “الدائم” لكي لا يعتريه أيّ توقف، جرّاء أيّ تغيّرات سياسيّة أو تبدّل في الأشخاص. وعقد لغاية الآن مؤتمران أو جلستان لهذا المنتدى: الأولى في الفاتيكان العام 2008، وكانت بعنوان “حب الله وحب القريب”؛ وجرت الثانية في تشرين الثاني 2011، في قصر المؤتمرات في موقع المغطس في الأردن وجاءت بعنوان “العقل والإيمان والإنسان”. ولا مجال هنا للإطالة حول الدور الإيجابي الذي لعبته ثلاث زيارات بابوية إلى الأردن، الأمر الذي جعل الأردن أنموذجاً راقياً في مجال الحوار. ولم يفاجأ العالم عندما تشكّل أسبوع الوئام بين الأديان في الأمم المتحدة، تجاوباً مع دعوة أردنية سامية.
وقد تغيّرت خلال الفترة الماضية بعض المفاهيم المستخدمة في جلسات الحوار. إذ كان الحديث سائراً حول مفاهيم مثل “التسامح” و”التعايش”، وهما لا يفيان بالغرض المطلوب والأهداف العالية. فالتسامح يعني أنّ هنالك أخطاء ارتكبت من أيّ طرف وعليه أنْ يسامح الطرف الأضعف، كما أنّ “التعايش” يعني أنّ هنالك شروطاً مسبقة لكلّ تعامل بين طرفين. ومن ثم، فقد أتت مصطلحات أكثر تعبيراً عن واقع الحال مثل “الشراكة” و”الوئام”، وصولاً إلى مبدأ “المواطنة” الجامع لكلّ المواطنين بمساواة دستورية وحقوقية كاملة.
ومن شقّي الحوار المزدهرَين في الأردن، والمنطلقين أيضاً منه إلى العالم، ولمّا كان “الربيع العربي” قد أفرز تسلّم الحُكم في غير دولة عربية، من قبل أعضاء حركات وأحزاب سياسيّة ذات صبغة دينيّة، وبعد العشرية الأولى على المؤتمر العربي المسيحي المذكور، نرى مناسباً أن تتم الدعوة إلى مؤتمر يتم فيه تسليط الضوء، من جديد، على أسباب المودّة الصلبة الموجودة بين المسيحيين والمسلمين في هذا الوطن العزيز وفي الوطن العربي. كما أن من شأن المؤتمر الجديد أن يعلن تمسّك المسلمين بأبناء جلدتهم وشركائهم في الحضارة والتاريخ والمصير. ولِمَ لا يكون عنوان المؤتمر “معاً للدفاع عن صورة الأمّة”، بعدما كان مؤتمر العام 2002 بعنوان “معا للدفاع عن الأمّة”؟ وصورة الأمة لن تكتمل إلاّ بالحضور العربي المسيحي الى جانب الحضور العربي المسلم.
فقد تعرّض المسيحيون في العشر سنوات الماضية، وبخاصّة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، إلى عدّة ضربات موجعة، وإلى نزوح الألوف المؤلفة تاركة وراءها بيوتاً وأوطاناً، وتاريخاً مشتركاً، وحضوراً مزهراً، حاولت تلك الضربات القضاء عليه. لكن، ما يهمّنا هو أنّ المسيح
يين العرب والمسلمين العرب مدعوون اليوم لضرورة التصدّي لكلّ ما من شأنه أنْ يجعل النظرة المسالمة تتغيّر، وأن يكون الهم والشغل الشاغل هو خدمة الوطن والمواطن، والحفاظ على السلم المجتمعي والاستقرار. ولدينا في الأردن رصيد كافٍ، ليس لديمومة العلاقات التاريخية الوطيدة هنا فحسب، وإنمّا أيضا لتعميم الرسالة والمنهج الأردنيين، ولتصدير النموذج الأردني إلى كل البلدان الشقيقة والصديقة.
انّ وقفة عربية مسلمة باتت ضرورة حتميّة للدفاع عن المكوّن العربي الذي لا يستغنى عنه: أي الحضور المسيحي العربي الفاعل والإيجابي في المنطقة. وهي وقفة لا يعبّر عنها بأبلغ ممّا جاء على لسان الملك عبدالله الثاني، لدى استقباله قبل أيام للبطريرك الماروني بشارة الراعي: “إن المسيحيين العرب جزء أصيل من الحضارة العربية الإسلامية، ويجب أن نعمل جميعاً على المحافظة على تعزيز الوجود المسيحي والحد من هجراتهم، لاسيّما من فلسطين وبعض الدول العربية التي تشهد عدم استقرار”.
أمّا المسيحيون في الأردن، فهم جزء من مجتمعهم، وما ينتظر شركاءهم الحضاريين، إخوتهم المسلمون، ينتظرهم بالضرورة؛ فقد عاشوا معاً ماضياً ويعيشون معاً حاضراً، وسيعيشون معاً في السرّاء والضرّاء. وما يعّبر عن أحوال المسيحيين في الأردن هو ما جاء في بيان رؤساء الكنائس، تعليقاً على المعبدين التبشيريين العام 2008، إذ جاء فيه:
“لا شيء يخيف المواطن المسيحي من دستوره وحكومته. فهو مواطن بحقوق المواطنة، شأنه في ذلك شأن المواطن المسلم. فاختلاف الدين والتعددية أمور شرعية يحميها القانون. والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين جيدة جداً. كذلك، فإن علاقات رجال الدين المسيحي مع جميع السلطات في الأردن جيدة جداً. والمستقبل يوحي بمزيد من الاطمئنان لوضع المواطنين المسيحيين. ولا شيء في الأفق يوحي لهم بالقلق. وهم يتمتّعون بحقوق وصلاحيات مضمونة في الدستور، لا يتمتع بها المسيحيون في الدول الأوروبية والأميركية”.
والمسيحيون في الأردن كذلك هم جزء من الهوية العربية المسيحية في الشرق الأوسط، وخير تعبير عنهم ما جاء في الرسالة الختامية للمجمع الكبير “السينودس” الذي عقد في الفاتيكان وناقش على مدار أسبوعين أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط:
“نقول لمواطنينا المسلمين: إنّنا إخوة، والله يريدنا أن نحيا معاً، متّحدين في الإيمان بالله الواحد ووصيّة محبّة الله ومحبّة القريب. معا سنعمل على بناء مجتمعات مدنية مبنية على المواطنة والحرّية الدينية وحرّية المعتقد. معاً سنتعاون لتعزيز العدل والسلام وحقوق الإنسان وقيم الحياة والعائلة. إنّ مسؤولياتنا مشتركة في بناء أوطاننا. نريد أن نقدّم للشرق والغرب أنموذجاً للعيش المشترك بين أديان متعدِّدة وللتعاون البنَّاء بين حضارات متنوّعة لخير أوطاننا ولخير البشرية جمعاء”.
ماذا يريد المسيحيون إذن؟ لا يريدون غير مجتمعات ديمقراطية مبنية على المواطنة.. لا أكثر ولا أقل.
* مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام – الأردن
عشر سنوات على مؤتمر العرب المسيحيين في عمّان
الأب رفعت بدر*